يمكن للقارئ المتفحص لنصوص الشاعر الراحل "علي الطه"، أن يتوقف عند عدد من المحطات المهمة التي رسمت طريقه، في التمايز عن الشكل الشعري السائد، فقد كانت المحطة الأولى التي أنطلق منها، هي وعيه لحال الفن الشعري، ورؤيته لضرورة تقديم ما هو مختلف وربطه بالأفق البعيد، والمحطة الثانية هي تعلقه بالمكان سواء مسقط رأسه "الفرات" أو الأماكن التي نضجت فيها تجربته الأدبية "دمشق".

بين نقيضين

حمل "الطه" في نصوصه كما في شخصه تعرجات "الفرات" التي أعطته مساحات واسعة للتأمل والانتباه، فلم تغب تلك البيئة عن نصوصه، بل كانت مصدراً غنياً لصور حسية لا تنتهي.

هنا بإمكاننا نقل هذه الصورة إلى قماش لوحة تشكيلية، وهي صالحة لأن تكون مشهداً سينمائياً، الهديل فيه موسيقا تصويرية

يقول الشاعر والكاتب "دمر حبيب" لمدونة وطن: «جاء الشاعر الراحل من الطبيعة وملاهي الطفولة والهدوء في "مسكنة"، إلى الفطام الجديد وصخب "دمشق" وازدحامها وحياتها السريعة، فكان يقول "أنا جاهز دائما للموت والحب"».

الطه ولينا تقلا في منزلهما

ويتابع حبيب حديثه: «ينظر إلى الحب كنقيض للموت أو كخزان للحياة كلها، فالحب هو كل ما نصادفه من جمال حيث تبدو الحياة من غير ذلك الجمال لا معنى لها، وعندما يأتي الندم إلى نص "علي" تظنه يكتبه في مرحلة ما بعد الموت، هكذا يأتي من مكان مظلم لينير الأشياء، يقول في إحدى قصائده على سبيل المثال :

أنظر خلفي إلى الأشياء

إن لم تسقى بماء القلب تموت

من مجموعاته الشعرية

سأحاول أن ....

مجموعة الفرات لايسير شمالاً

من يكسر هذا التابوت ؟..».

الفن الثامن

وحول النظرية التي كتبها "الطه" واسماها "الفن الثامن" ودونها ضمن مجموعته الثالثة في قسم خاص، يشير "حبيب إلى أن إلمام "علي الطه" بجميع أصناف الفنون وأشكالها واستمتاعه بها، بالإضافة لدراسته لنشأة تلك الفنون ومتابعته لتطورها، كل ذلك جعل نظرية "الفن الثامن" تتشكل لديه، بداية من حاجته لجمع تلك الفنون كلها في حقل واحد ، فكان الشعر هو الملاذ، الشعر الموجود في كل شيء فما بالك عن وجوده في الفنون، حتى أن "علي" صار يرى تلازماً وجودياً بين الشعر والفنون الأخرى بعدها صار يظهر هذا في نصوصه.

ويأتي "حبيب" بمثال بسيط من قصائد "علي" وهي:

... يمامتان أجفلهما الرعد

تهدلان بين أصابعي...

ويتابع: «هنا بإمكاننا نقل هذه الصورة إلى قماش لوحة تشكيلية، وهي صالحة لأن تكون مشهداً سينمائياً، الهديل فيه موسيقا تصويرية».

وينهي "دمر حبيب" حديثه قائلاً: «كان الراحل يقول لي على ضفة نهر الفرات، لا تنظر إلى السماء فقط، وجه كاميرا والتقط صورة في أي لحظة، سوف تنظر إلى الصورة وتجد طائراً.. هكذا كانت حياته، مع كل لحظة كان يرسم طائراً في قلب».

مشاهدٌ وصور

بدورها تقول الشاعرة والكاتبة "أمل لايقة": «الشاعر "علي الطه" حين كان يلج أبواب الشعر فإنه يفاجئنا بلغة نثرية مطواعة تشكل حضوراً أدبياً وإنسانياً، متأثراً حيناً، بل وبأكثر الأحيان ببيئته الفراتية حيث فرادة الأماكن وانسياب النهر على مسرح كتاباته، يعلن مرور رؤياه البعيدة الشاسعة في عمق إحساسه وفكره وانشغاله في تركيب المشاهد والصور، حتى نكاد نشعر أننا أمام كاميرا متحركة تلتقط كل المساحات اللونية والموسيقية والعاطفية المتدفقة بقلم إنسان متعطش لبناء حياة من الشعر واكتمال الشعر بالحياة».

وتضيف: «لقد سجل الشاعر "علي الطه" مواجهته مع الشعر والسرد الدرامي واليقظة الحسية بكل انتباه لما سيتركه بعد رحيله ليكون نافذة وضاءة لمن يرغب بالعبور الى منصة الادب والحياة».

بيت من القصب

شكّل "علي الطه" ثنائياً مع شريكة حياته الشاعرة "لينا تقلا"، وكتبا معاً بعض القصائد المشتركة "قصيدة تحمل توقيع كاتبين"، وبنيا معاً بيتاً من القصب قريب من ضفاف الفرات، ومكثا فيه لأكثر من عامين حيث أنجزا العديد من الدراسات والقصائد، وعن هذا المكان أنجز التلفزيون السوري فيلماً وثائقياً بتوقيع الإعلامي "أحمد العسكر".

وفي هذا السياق توضح الشاعرة والناقدة "رولا حسن"، كيف كان "الطه" قريباً من الناس وصادقاً مع نصوصه وأصدقائه.

وتضيف: «"علي الطه" شخص استثنائي، كان على مسافة واحدة من كل الأشياء، وعلى مسافة واحدة من كل الأشخاص، يتعامل بحب مطلق ويُشعر الآخرين بحبه لهم، كما كان شاعراً غير منفصل عن ذاته، وكما كان على الورق وفي القصيدة كان في الحياة أيضاً».

يشار أن "علي الطه" شاعر وكاتب سوري من مواليد بلدة "مسكنة- حلب" عام 1969، له ثلاث مجموعات شعرية "بعيني أعض على الحياة"، "الفرات لايسير شمالاً"، "تحت سماء تشبهني"، والمجموعة الأخيرة تضم دراسته التي يثبت من خلالها دلالات الفن الثامن، وهي نظرية أوجدها للمقاربة بين جميع أنواع الفنون، وهرمها الفني، الشعر والكلمة، وله عدة دراسات حول الفنون والشعر نشرت في دوريات محلية وعربية، له عدة تجارب في مجال الأفلام الوثائقية.

توفي الشاعر "علي الطه" في "دمشق" شباط عام 2023.