مطيعة طرابلسي

مطيعة طرابلسي

"مطيعة طرابلسي".. تاريخ جيل يتجسد في امرأة 

 عزة آقبيق 

السبت 15 آذار 2014

 المتتبع لسيرة حياتها، يستطيع أن يستشعر قوة المرأة السورية في سيرة امرأة استطاعت دوماً المزاوجة بين طموح لا محدود والتزام كامل بأصلها الدمشقي الذي تعتز به. 

إنها المربية الفاضلة "مطيعة طرابلسي"، مدونة وطن "eSyria" التقت الأستاذة "رشا الصباغ" الباحثة في مركز الشرق الأدنى للدراسات في "دمشق"؛ التي تحدثت عن الأستاذة "طرابلسي" بالقول: «أبصرت الأستاذة "مطيعة طرابلسي" النور عام 1921 في بيت دمشقي كبير، تعبق بين جنباته نسمات تفوح من شجيرات الليمون والنارنج والياسمين.

قضت سنوات حياتها الأولى في هذا البيت القريب من حي "القنوات" أعرق أحياء "دمشق"، عاشت صاحبة الترجمة، في ظلال أبوين كريمين وثمانية إخوة جمع بينهم الحب والخلق الحسن.

وقد خرج من هذا المنزل عدد من الأبناء تميزوا بحب المواطنة والعلم، من أبرزهم الدكتور "عزت طرابلسي" أبو الاقتصاد السوري، الغني عن التعريف، والدكتور "عبد المجيد طرابلسي" الذي كان سفيراً لبلده في بلدان عدة».

الدكتورة "عزة آقبيق" الباحثة في تاريخ "دمشق" وصاحبة هذا المقال تقول عن لقائها مع الأستاذة "طرابلسي" الذي جرى بتاريخ 25 شباط 2014: «لم يكن لقاء المربية الفاضلة لقاءً عادياً بل كان استثنائياً، حيث سار مركب الذكريات ليقف عند موانئ العمر المتعددة، وبداية بتتبع السيرة الذاتية أمكن الوصول إلى تطور الحياة الاجتماعية منذ عام 1921م إلى يومنا هذا، وذلك من خلال تتبع التحول الذي طرأ على الأسرة الدمشقية.

والانتقال مع الأسرة من "دمشق" القديمة داخل السور إلى "دمشق" الجديدة خارج السور، وذلك بتتبع التوسع العمراني لأحياء دمشق الحديثة، فمن منطقة "زقاق البركة إلى قصر الحجاج، إلى شارع خالد بن الوليد إلى الجسر الأبيض عطا الأيوبي، فالمهاجرين فحي المالكي"، أسماء الأحياء آنفة الذكر تعطي فكرة عن توسع مدينة دمشق العمراني، وظهور الأحياء الجديدة، وارتباط قاطنيها بالمدينة الأم من خلال وصفها الرائع للبيت الدمشقي بصوره المختلفة.

وبالرجوع إلى ما روي عن شاهدة على العصر نجد في مجريات الذكريات تطور الحركة العلمية في "دمشق" والمحافظات، حيث ارتادت المترجم لها منذ نعومة أظفارها "الكتّاب"، وهناك في "الكتّاب" كانت الصغيرات يجلسن أمام معلمتهن لاستقاء المعارف البسيطة إضافة إلى صغار السور من القرآن الكريم».

وحتى سن السابعة داومت "مطيعة الطرابلسي" على ارتياد حلقة "الكتّاب" لتنتقل إلى مرحلة جديدة، بالذهاب إلى المدرسة الخاصة، التي تعود إلى مؤسسها الشيخ "علي الدقر"، المعروف بعمق تدينه وسعة علمه، والتي تقع في "زقاق البرغل" القريب من "باب الجابية" أحد أبواب دمشق القديمة وذلك عام 1928م، حيث بدأت الطفلة تلقي علوم ثابتة، بجدية أكثر لتقول هي عن هذه المرحلة:

«كان الشيخ "علي الدقر" رحمه الله يقوم بجولات تفقدية بين صفوف مدرسته يتفقد فيها سير الأمور وطريقة تعامل المعلمات مع الطالبات فكان مراقباً جيداً لأفراد الهيئة التدريسية في المدرسة، من خلال طالبات مدرسته، فهو لم يكن ليسأل المدرسات بل يتجه إلى الصفوف مباشرة ليطرح على الطالبات بعض الأسئلة يقف من خلالها على سلوك المدرسات، ومدى ما تقدمنه من خلال فهم الطالبات للمواد المدرسة.

ولتتذكر "طرابلسي" بأن الشيح "علي الدقر" سأل سؤالاً فرفعت هي أصبعها الصغير لتجيبه عن سؤاله، وكانت فرحته بها كبيرة، فلم يكن منه إلا أن شرب نصف كوب من الماء وأعطاها النصف الآخر وهي دلالة على قبولها عنده وهي طفلة صغيرة غضة، لم تدرك حينها لصغر سنها القيمة المعنوية لنصف الكأس الهدية، لتنتقل لتقول:

كان يكره ضرب التلاميذ، ولربما كانت ثقافة التأنيب في تلك الفترة هي الضرب على اليدين ولكن فكره المستنير رفض هذه الطريقة في التربية والتعلم».

وأضافت: «تعلمت القرآن الكريم قراءة وتجويداً على مدى ثلاث سنين لأنتقل بعدها إلى المدرسة الحكومية، وكان ذلك فيما يقارب العام 1931م».

كانت المترجم لها في تلك الفترة متألقة وجذابة ما جعل والدها يمنعها عن متابعة الدراسة، حسب ما كان متعارفاً عليه في تلك الفترة عند بعض أرباب الأسر، فانقطعت عن ارتياد المدرسة في وقت كان طموحها فيه كبيراً.

 

حسن تربيتها جعلها تخضع لمشيئة والدها ولكن الأمل ما كان ليخبو في النفس، وعليه انتظرت رجوع أخيها الدكتور "عزت طرابلسي" رحمه الله الذي أملها من خلال مراسلته لها، بالمساعدة عند عودته، ليترجم وعده على أرض الواقع، بعودة الشابة "مطيعة" الشقيقة المقربة إليه لمتابعة تحصيلها العلمي بعد عودته هو من فرنسا، تقول "مطيعة" عن هذه المرحلة:

«لم يخبُ ضياء الأمل في النفس التواقة إلى المعرفة فكنت خلال انقطاعي عن العلم أقرأ كل ما تقع عليه عيناي خلال اعتزالي القسري للتعلم، وهكذا عدت إلى تلقي العلوم في الثانية والعشرين، حيث اجتزت المرحلة الإعدادية، تحت إشراف أخي "عزت" الذي أخذ على عاتقه مهمة تعليمي مبادئ اللغة الفرنسية والعربية والأشياء التي أحتاجها في السنوات القادمة، ولقد استطعت النجاح بسنة واحدة مختصرة بذلك مرحلة كاملة، وكان هذا النظام سائداً.

فيما بعد وبين عامي 1951-1955م أنهيت المرحلة الجامعية بنجاح، "كانت المعلومات غزيرة ولكنني اجتزت المراحل الأربع ونلت الليسانس، من كلية آداب جامعة دمشق - قسم التاريخ.

وبعد التخرج عدت لأتقدم إلى مسابقة أخرى في دار المعلمات ونجحت فيها، ليتم تعييني في محافظة "حمص" التي كانت تشهد تحولاً علمياً ملحوظاً لمدة 4 سنوات».

ومع انتهاء انتدابها إلى "حمص"، عادت إلى "دمشق"، لتنضوي تحت راية الجامعة السورية، لتكون ضمن كادرها المؤسس، في مرحلة البدايات، استطاعت "مطيعة الطرابلسي"، أن تتعامل مع مجال الإدارة بكل جدارة، مضيفة إلى سجلها الناصع ألقاً وتميزاً، وذلك من خلال، إعدادها لأرشيف أهم المحاضرات، إضافة إلى المساهمة في ترجمة كاملة لكل المراسلات، بين جامعة دمشق، والجامعات المختلفة الأخرى في الخارج.

بعد سنوات من العمل المضني، تركت الأستاذة "مطيعة الطرابلسي" بصمتها الواضحة، في سجلات جامعة دمشق، لتنتقل فيما بعد لتتولى رئاسة مدرسة دوحة الأدب.

تقول السيدة "رشا الصباغ": «تاريخ حافل للمرأة السورية، متمثل في جيل كامل، تألقت فيه كثيرات، كانت بصمات المربية الفاضلة، "مطيعة الطرابلسي" موجودة في أكثر من موقع.

خاضت ميدان العمل بكفاءة واقتدار واستقامة في الأخلاق عز نظيرها، إضافة إلى لطف معشر، ودماثة خلق، وتواضع أهل "دمشق" المتوارث والمشهود لها فيه».