"ياسر عبد القادر".. ابن الرصيف المتمرد وذبيح الهوى

كسار مرعي – الحسكة

مبكراً جداً بدأ مشواره الفني حتى قبل أن يتعلم القراءة والكتابة، فقد آثر الرسم عليهما لأن إحساسه الفني طغى على فكرة العلم والمعرفة، فكانت الرتوش وظائفه وخطوط القلم دراسته، ومن الممكن أنه أيقن أن علم الفن لا يرتبط بعلم المعرفة، أو أنه لم يجد متسعاً من الوقت ليغرف من الفن الذي استحوذ عليه إلى الدراسة وشجونها.

"ياسر صالح حبيب عبد القادر" فنانٌ مغمور  ساقه حظه السيء إلى دهاليز الحياة المظلمة، فتملكه الأسى وكبَّله الفقر وأجهز عليه الحب بالضربة القاضية، فصاحب الرصيف خمسة عشر عاماً وباح له بكل ما يجيش في صدره، ودفعه الرصيف إلى الحياةِ مرةً أخرى إلا أن أحاسيسه تجذّرت في إسمنته فما ان يبتعد عنه حتى يشتاق إليه، وراح يبيع الحلوى للناس وتعتصره مرارة الحرمان والألم.

"المفكرة الثقافية" حاورت الفنان "ياسر" بتاريخ 8 تشرين الثاني 2014 ففتح لها دواوين حياته التي خطها بدموع الزمن.

* خمسة عشر عاماً على الرصيف ماذا كنت تقول لنفسك خلالها؟

** لو أردت ان أؤرخ لحياتي لما تحدثت إلا عن هذه السنين، فقد وجدت نفسي حين ضعت وعرفت الآخرين حين أنكروني، ربما كان لجوئي إلى الرصيف حالةٌ انهزامية تملكتني في لحظة حب؛ لم تكتمل أركانها أو أنني قد رسمت طريقي فيها بالخطأ، لكن هذه المرحلة هي التي فتّحت ناظري على حقيقة الحياة، فأصبحت أرى الأشياء دون تكلّف أو بمعنى أدق أراها كما هي لا كما يشوهها الآخرون، هذا الرصيف الذي غفوت على إسمنته أياماً وليال هو بمثابة المدرسة التي لم أفلح فيها، لقد علّمني الإرادة والتصميم، وفي كل يومٍ كان يدفعني إلى الحياة لكن فراقه كان يعز علي، وها أنا اليوم أعمل على الرصيف المقابل له، لكنني أتمنى في كل لحظة أن تكون طاولة الحلوى فوقه لأقترب منه أكثر.

* بدأت الفن مبكراً واتقدت جذوتك وأنت غض فما الذي بدل حالك؟

** لقد خطفني الفن من الحياةِ بأسرها فمنذ الصف الأول كنت أعيش الحياة بتفاصيلَ فنية، ولأن والدي كان فناناً لم أجد حرجاً في إقناعه بميولي الفنية، بل على العكس تماماً كان محفزي الأول، لكنّ التمرد على الواقع غزاني مبكراً لدرجة أنني حملت هم الشارع العربي وأنا ابن الثالثة عشر من العمر، ففي الصف السابع أقمت معرضاً بالألوان الزيتية ضمنته 27 لوحة، كان محوره الشارع العربي ومآلاته؛ فتبنتني صفوة المجتمع وقتها وربت كبار الساسة على كتفي، وأنا الطفل النجيب الذي أثر فيه هذا التشجيع فأصبحت أنجز معرضاً كل عام.

* لا يكاد الرصيف يغادر جلستنا فهل ما زال يتحكم بفنك؟

** رصيفي لا يشبه الأرصفة فقد تحولت عيني بفضله إلى عدسة وقدماي إلى ريشتين، وهو يصرخ علي في كل يوم، أرسم الواقع كما شاهدناه معاً لا كما يصوره الآخرون، وأنا أخاطبه كصديق حميم وأعاهده على أن أنقل الواقع كما يجري من فوقه، هو من علمني كيف تسير الحياة، وهو الذي عرفني بأروع الأشخاص، ففي فترةٍ لم أكن أقوى على شراء علبة الألوان، كان جسراً مر من فوقه أشخاص نبلاء، تبنوني ومدوا يد العون لي ولم يكن عنواني يصعب على أحد، لأن الرصيف هو جسر الوصول إلي وما أن يصل من يطلبني إلى بداية الشارع، يسارع نديمي "الرصيف" ويقودهم إلي، لذا أقول ومن دون خجل من هنا ابتدأ المشوار، ولكيلا تسول لي نفسي يوماً بأن أنساه فقد رسمت نفسي شيخاً في نهاية العمر على أعتابه، وهذه اللوحة هي الأقرب إلى قلبي من بين كل أعمالي.

* "وجه الزمن" لوحةٌ فنيةٌ رائعة حصدت عليها جائزة مهرجان الخابور عام 2006 فكيف رسمتها؟

** لا يمكن أن أصف الحالة التي رسمتها فيها لأن الفنان عبارةٌ عن أمزجة متضاربة، لكن هذه اللوحة هي عصارة حالة من المرار كنت أعيشها، فكان التوتر بادياً عليها وكانت الألوان مشبعةٌ بالأسى والخطوط تنزف ألماً، ربما كان فوزها نتيجة الدقة في قراءتها، ومما اذكره أن أحد المتلقين سألني باستغراب وهو ليس فناناً، لكنه يتذوق الفن وقال لي كيف تمكنت من رسمها وأين كنت تعيش وماذا كنت تفعل، وبدا التوتر على وجهه لأنه تشبع بالحالة الفنية التي تبثها اللوحة.

* يعاني المغمورين من الفنانين من كساد فنهم فهل أنت منهم؟

** أنا منهم ولست منهم فالأولى تدلل على الواقع الفني في هذه المنطقة، والثانية تؤكد أن الفن إذا ارتقى ليكون فناً قد يشتريه المهتمون، وأنا في مهرجان الخابور الذي زاحمت فيه كبار الفنانين من القطر، بعت سبعة وعشرين لوحة من أصل ثلاثين وهو رقم قد لا يمر على كثير من الفنانين، ربما لأنني تمكنت من رسم ذاتي بشفافية، فاللوحة هي مرآة الفنان ومن لم يطلع الآخرين على نفسه فلن يصل بسهولة.

* للفنانين فيما يرسمون مدارس فما هي مدرستك التي تنتمي إليها؟

** بطبيعتي لا أحب أن أجلس بين الحدران كما لا أحب أن تحدني حدود، وكذا في المدارس إلا أن "السوريالية" الفوضوية هي الأقرب إلي، لم أتدرج مثل باقي الفنانين برسومي منذ الطفولة، فلم أرسم الطبيعة قط، ولم تستهويني المرأة التي تحمل جرة الماء على كتفها، لقد كانت الوجوه تلاحقني في كل مكان، لقد تأثرت بمدرسة "سلفادور دالي" و "مونييه"، لكن طالما كنت أقحم الوجوه "البورتريه" مع الطبيعة تيمناً بالمدرسة "التعبيرية"، إلا أنني أكرر القول أنني لم أنتمي لواحدةٍ منها يوماً، بل أسعى منذ فترة وما زلت وسأبقى أحاول أن تكون لي مدرستي الخاصة في الفن، وقد شرعت في تكوين هذه المدرسة التي أتمنى أن يطلق عليها يوماً ما مدرسة "ياسر حبيب".

* مع هذا الطموح الكبير ما زالت السمفونية السوداء هي الواقع الذي تعيشه فكيف تفسر ذلك؟

** الفن هو شحنة داخلية تنصب في اللوحة وقدر لوحاتي أن تعيش الرومنطيقية معي، لم أنتقل إلى سواد الرصاص إلا منذ 4 سنوات، لكن هذا السواد يتميز بساحاتٍ لونية كبيرة؛ تفوق حتى جاذبية الألوان، والمطلوب هو قدرة الفنان على التحكم بالظل والنور وتدريج اللون، فأنا أستطيع أن أرسم وجهاً أشقر بقلمٍ من الرصاص، وهذه تتطلب دراية وثقافة فنية كبيرتين، ومن هنا أقول إن الفنان لا يمكن أن يكون فناناً وهو جاهل، ولا يجوز للفنان أن ينتقل من اللاشيء إلى الفن التشكيلي أو التجريدي أو التعبيري أو ما شابه كما يفعل البعض، بل يجب عليه أن يتقن الصورة ثم إذا ضاقت بأفكاره مساحة اللوحة يوظفها فيما سبق.

*مضى عليك ردح من الزمن وأنت في مكانك فهل تريد أن تدفن الفن كما دفنتك الحياة؟

** أبداً .. لم تتمكن الحياة من دفني فإرادتي كانت أقوى من جبروتها، والدليل أنني ما زلت أرسم، بالرغم من اللاإمكانيات واللامعقول الذي يكتنفني، إلا أن الأمل موجود، وأنا أحاول أن أنطلق من جديد فقد أصل في يومٍ من الأيام، حتى أنني أحضّر لمعرض في الهواء الطلق قد أنتهي منه في أي وقت.