وجوهٌ بحزنٍ نبيل وخطوط ٍ بحروف لاتُقرأ، تحيي الراحل "حيدر يازجي"

 بلال سليطين - اللاذقية

في طفولتنا عرفنا الحرف في لغة مقروءة واعتدنا على كتابته كجزء من الكلمة، حتى أن بعضنا اعتاد على رسمه قبل أن يعتاد كتابته، لكن أحدا منا لم يفكر أن هذا الحرف يمكن أن يتحول إلى لوحة، لوحة من الخط العربي يتمازج فيها اللون والحرف، إلا أن الفنان الدمشقي "بشير بشير" فعلها ورسمه، لكن الفرق بيننا وبينه أن أحرف خطنا كانت مقروءة بينما أحرف خطه لم تكن لتقرأ، فهي لم تكتب وإنما رسمت لترتقي باللون.

يقول "بشير" في حديث للمفكرة الثقافية على هامش معرضه "تحية للراحل حيدر يازجي":«لقد أبعدت الخط عن النظرة السائدة له، وأدخلته في مجال آخر، أدخلته في لوحة تتيح للمتلقي نظرة أخرى للخط، نظرة لم يألفها، نظرة غير اعتيادية».

من وجهة نظر الفنان فإن الخط أساس كل شيء، فحتى لفظ الجلالة "الله" هو عبارة عن أربعة خطوط، لكن الخط في الفن غير مقروء، قد يقرأ بالإحساس لكن ليس ضمن اللغة ولا ضمن اللفظ، ومن الممكن أن يتحول الخط إلى غصن شجرة.

في هذا العالم لا يوجد إنسان غير فنان، لكن عليه أن يخرج شخصية الفنان من داخله، فبعضهم فنان في قراءة اللوحة التي كثيرا ما يعجز الفنان عن قراءتها أو قد تكون قراءته لها أقل مستوى من قراءة المتلقي، لكن اللافت في الفنان "بشير" أنه لا يقرأ خطوطه التي يقول أنها غير مقروءة، كما أنه لا يكتب الخط العربي فهو ليس خطاطا حسب تعبيره، يقول:«أنا أحافظ على تراثنا من الخط العربي، لكنني لا أرسم ضمن قاعدة، ولا أنتمي لمدرسة في الخط، وبدون عمل فني لا يمكنني كتابة الخط، أرسمه وفقط أرسمه، بانسيابية حركية، وأبني علاقة بين الحرف واللون».

هناك علاقة متينة بين الحرف واللون تجدها في لوحات "بشير" المشاركة بالمعرض،  فمن ناحية تجد أن الحرف ضمن لوحته التشكيلية ذو أفق واسع، كما تجد له زخما لونيا يجعله خارجا عن المألوف، وللون عنده دور أبعد من التزيين، إنه توظيف للمتعة في حالة اتصال بصري بين اللوحة والحرف والخط من جهة والمتلقي من جهة ثانية، حسب وصفه.

وإن كان للحرف زخم لوني في بعض اللوحات، فإن للون الواحد في بعض اللوحات الأخرى ألوانا ما هي إلا تدرجات ضمنه، يقول "بشير" معلقاً على لوحات الأبيض والأسود التي تتوسط لوحات المعرض الملونة بتفنن:«في ظل صخب الألوان لابد من مساحة للأبيض والأسود، فالعين دائماً بحاجة للراحة، واللون الواحد أقوى من كل الألوان، وعندما نقدمه بتدرجاته نقدم للمتلقي حالة بصرية عالية الدقة».

لوحات "بشير" متنوعة الأحجام لكنه يفضل تلك التي تأخذ حجماً كبيراً، فهو يجد فيها ملعبه وتتحرك فيها ريشته كلاعب كرة قدم في الميدان بلا رقابة، ويقول:»اللوحة هي تراكم ذاكرة وعملية تطوير ووعي، وعندما تضع ريشتك على سطح اللوحة وهي بيضاء، عيك أن تكون متكامل الأبعاد، وإذا كانت لوحتك صغيرة فإنك تضغط العناصر، أما إذا كانت كبيرة فإنك ترسم بأريحية وتتيح للمتلقي استقبال العمل بأريحية».

معرض تحية إلى روح "حيدر يازجي" جمع "بشير" مع النحات السوري إبن السويداء "فؤاد أبو عساف" الذي حمل معه وجوهاً من وحي واقعه وواقعنا، وجوهاً تنطق، وجوهاً حزينة.

وجوه "أبو عساف" جاءت على مايبدو لتحاكي السنوات الأربعة التي غاب فيها عن محافظة اللاذقية، أو لتحاكي الوجود البشري في الجغرافية السورية، وقد تكون هذه الوجوه نحتت لتعبر عن حالته في السنوات الأربعة الماضية، فهو حسب قوله ينحت وجهه إذا لم يجد ما ينحته، ويضيف على ذلك معلقاً عن "38" عملاً نحتياَ ضمها المعرض :«38 عملاً، يعني 38 فؤاد أبو عساف».

"أبو عساف" وهو قليل الكلام، مختصر الإجابات، بدا متأثراً بشكل كبير بالواقع السوري، ورأى أنه لايمكن فصل الوطن عن العمل الفني على اعتبار أن الوطن هو شريك الفنان، وقد كان على مايبدو شريكه في هذه الأعمال واستحضره بمختلف صوره.

وجوه "أبو عساف" قريبة من القلب ويشعر المتلقي بأنه يعرف أصحابها، كما يعرف ناحتها، ففي أحد الوجوه تجد خطاً يقسم العمل نصفين، يقول "أبو عساف" أن هذا الوجه هو محاولة لجمع مواطن سوري بعد التفجير.

الحزن على وجوه نحات جبل العرب حزن نبيل حسب وصفه، حزن على كل ما يحدث في هذا العالم.

يسعى النحاتون للابتعاد عن الإسقاط الأدبي على المنحوتة على اعتبار أنها مستقلة بذاتها، لكن الخروج من الهاجس الأدبي الموجود في داخل كل نحات ليس بالأمر السهل، "ابو عساف" ليس من هؤلاء الذين يبعدون الأدب عن منحوتاتهم، فهو يظهر فيها دون أن يشاء ويتجلى بأبهى صوره، وهذا من إيجابيات أعماله برأي بعض المتلقين.

مازال "أبو عساف" ينهل من تلك الوجوه التي رآها في طفولته وينحتها بصورها المتنوعة، فهذا النحات القادم من الجنوب السوري الغني بالكرمة، والغني بالزراعات المنزلية، عندما كان طفلاً رأى في حلمه المشتل الذي تزرع فيه عائلته وقد امتلأ بالوجوه، وعلى ما يبدو فهو يترجم هذا الحلم إلى واقع، نلمسه من خلال هذه الأعمال التي اصطحبها معه إلى اللاذقية وجمهورها الذي وصفه بصاحب الخبرة.

لقد امتزجت خطوط "بشير وألوانه"، مع وجوه "أبو عساف" وتقاطيعها وحزنها النبيل، في معرض يحيّي الراحل "حيدر يازجي" استضافته مؤخراً صالة هيشون باللاذقية، وحضر افتتاحه نخبة من فناني المحافظة.