موسيقا الشرق من "أور" إلى "أوغاريت" (8)

"كنارة" أوغاريت لعلاج المرضى

كمال شاهين - الللاذقية

للكنارة أو القيثارة حضورها في موسيقا المشرق العربي، فكل حضارات المنطقة المشرقية كلها من سومر إلى جنوبي مصر تستخدم نفس اللفظ لاسم هذه الآلة الموسيقية، مما يؤكد من جديد الارتباط الوثيق لهذه الحضارات بعرى فوق وثيقة.

ففي "حوض الفرات ودجلة والنيل" ظهرت بدايات الوعي الإنساني، ومن ثم ترقت ودخلت البشرية طور البناء الحضاري، ورغم الإصرار الغربي على "آرية" حضارة "سومر" إلا أن الكشوفات الأثرية تقول إن "سومر" مشرقية كما هي "أوغاريت" التي يحاولون إلصاق التوراة بها مشرقية أيضاً.

الكنارة آلة مقدسة في حضارة هذه المنطقة، ويعود تقديسها لأسباب كثيرة ربطتها بالإلهي وبميثولوجيا المنطقة ككل وبأشكال متعددة تنتهي عند مصب حضاري واحد، هو الربط الدائم بين الديني والإنساني، هذا الربط الذي لا يتعالى فيه الإنساني على الإلهي ولا العكس، هو مفاتح فهم هذا "التقديس"، وليس إلصاق فكرة "الألوهة" في كل "أداة" أو "تمثال" أو "نصب"، عن القصة بهذا الشكل "استغباء" غربي واضح لعقل أنتج التوحيد السماوي قبل أن تشتعل في عالم الغرب شمعة ضوء صغيرة، وليست الفكرة "تقليلاً" من شأن حضارة هي اليوم منارة العالم، ولكنه السياق التاريخي الحقيقي الذي يعطي لكل حضارة دورها التاريخي والإنساني في مسيرة الحضارة البشرية.

وجدت إلى جانب الكنارة عدة آلات موسيقية مثل الطبلة الصغيرة (طب) والناي (تلب) والطبلة الكبيرة (مشلتم أو مسلتم)، ولكن الكنارة تحتل موقعاً خاصاً في الطقوس والشعائر الأوغاريتية. والسؤال ما هو الداعي لتخصيص الكنارة بهذه المرتبة المقدسة في أوغاريت القديمة؟

في النصوص الأوغاريتية، نجد التعبير عن الكنارة (كنر) بتسكين الحرفين الأولين في نصين رئيسين، الأول وجد في قوائم القصر الملكي KTU 1.47:32)، KTU 1.118: 31)) والآخر في أحد النصوص النذرية (KTU 1. 148:9) ، ويمكن أن نجد تعابير أخرى تستخدم نفس المفردة (كنر) و (التخت) ، كذاك تستخدم مفردة (زانارو) ، وهناك أثر واضح للتأثيرات الحورية المجاورة في بعض أسماء هذه الآلات (يمكن ملاحظة ذلك في الرقيم RS 26. 142:6) كما وجد أيضاً اسم الكنارة (اللير) في أسماء الآلهة المقدم لها نذور في "أوغاريت" (KTU 1. 148: 9). (المصدر: بنك معلومات أوغاريت بالإنكليزية، جامعة مدريد).

في اللغة السومرية الصُورية تشير العلامة (خطر DINGER) وهي تشبع علامة القراصنة الشهيرة، إلى الآلات الموسيقية التي تستخدم في الطقوس الشعائرية البابلية في بعض الأوقات، وتشير هذه النصوص إلى أن الإله "آن" كان اسمه متلازماً مع أسماء بعض الآلات الموسيقية وإليه يعزى في الميثولوجيا البابلية اختراع الموسيقا ()، كذلك كان هناك ارتباط واضح بين الإله (أيا) الذي يعتبر إلهاً لإحدى أدوات الموسيقا وكونه كاهناً حارساً في مجمع الآلهة للإله (كالو).

وفي الميثولوجيا المصرية نجد أيضاً رمزاً آخر هو رأس طائر الصقر كدلالة على الإله حورس مرتبطاً هو الأخر بآلة الهارب (شبيهة بالكنارة ولكنها أصغر حجماً) وبآلة وترية أخرى تشبه العود (أقربها شبهاً هو آلة المزهر حالياً).

هل يمكن بالتالي افتراض "تأليه الكنارة" في أوغاريت؟

لنتفق أولاً أننا نبحث في حضارة قديمة عنا، قاموسها يختلف عن قاموسنا بالمعنى الحياتي اليومي، وهو ما لا يمكن بحال من الأحوال الوصول إلى "روحه" مهما تكاثرت النصوص التي تعبر عنه، فما قد نفترض أنه من "آلهة" تلك الحقبة، قد لا يكون كذلك، وقد يكون له ترتيبه الثقافي والديني مما لا نعلم، ولكن اللقى الأثرية أوحت لنا بهذا التصور الذي يبقى افتراضياً، إلى أن يظهر ما يؤيده أو ينفيه، فقد تحدثت اللقى عما يسمى "الكروبيم"، وهم مخلوقات اختلف في دورها الديني وإن كانت الكلمة انتقلت إلى الفكر التوحيدي اللاحق في المسيحية والإسلام واليهودية، ولليوم ما زال النقاش حول وظيفتها في البانثيون الأوغاريتي قائماً (راجع كتاب "ثقافة أوغاريت" لشيفمان).

في الحضارة البابلية، وفي أسطورة (ننشار ونرجال) يرد ذكر نوعين من الأدوات الموسيقية المترافقة مع الكنارة، وهما الصنج، والطبل (درم) بمعناه المعاصر، وكلاهما من أنواع الطبول، ويتم استخدامهما لعلاج رجل مريض، النص (BM 34035 11. 13-23) لا يعطي تفصيلاً للتأثيرات التي حدثت على الرجل بعد علاجه، ولكن يلاحظ ورود نفس أسماء الآلات الموسيقية السابق ذكرها في قوائم أوغاريت الملكية، هل يمكن افتراض أن تلك الشعوب قد استخدمت الموسيقا كنوع من العلاج النفسي؟ وبالتالي مع النتائج التي حققها هذا العلاج، رفعتها إلى مرتبة القداسة؟

الأمر لا يحتاج إلى كثير من التفكير، فاليوم، لدينا بعض المدارس الطبية تستخدم الموسيقا لعلاج الاضطرابات النفسية لدى بعض المرضى، وهذا ما يثير سؤالاً جديداً: كيف عرف هؤلاء بقيمة الموسيقا العلاجية هذه؟ يحتاج الأمر إلى دراسات موسعة ليس هنا مجالها، نختصرها بالقول، نعم لقد عرفت تلك الشعوب قيمة الموسيقا العلاجية، ورفعتها بالتالي إلى مراتب القداسة بموازاة الآلهة التي تعبدها، على أن نضع بالحسبان ثلاث عوامل مهمة.

أول هذه العوامل، هو أن العلاج الطبي كان مقتصراً على كهنة المعابد، وقد برعوا في ذلك، وهذا يفسر ارتباط الأدوات الموسيقية بالمعابد كأدوات مقدسة، والثاني المستوى الطبي العام لتلك الأزمنة بكل ثقافته المادية والفكرية، وثالثها العلاقة التي ربطت الأفراد بالمعابد لجهة كونها مراكزاً ليس للعبادة فقط، بل وللاحتفالات والمعالجات والزواج وغير ذلك.

إذاً فإن أصوات هذه الآلات استخدمت لطرد الأرواح الشريرة (أو الشر، فهكذا حتى اليوم ينظر إلى المرض)، ويلاحظ أن هذه الطرق سرقتها التوراة وقدمتها في مزامير "داوود" الذي كان لقيثارته تأثير عجائبي على المرض بطرد الأرواح الشريرة من مرضاه، فقد غادرت روح الشر هذه "شاؤول" بعد عزف "داؤود" للموسيقا على قيثارته على رأسه (إصحاح صموئيل الأول، 16:23)، ولنتذكر هنا، أنه تم العثور على أدوات جراحية طبية في "أوغاريت" وبضمنها مشارط وسكاكين طبية وإبر وناي!!

بالعودة إلى "أوغاريت"، لا نجد اختلافاً في تفسير قدسية هذه الآلة وغيرها، فهذه "الشعائر الدينية الحياتية" قد كانت منتشرة في بلاد كنعان وبابل، ويوجد ما يثبت صحة ذلك في كثير من أساطير المنطقة، ففي لفافة ملوك بابل وتسمى (Gudea A vi 26-27)، تذكر هذه الآلات الموسيقية إلى جانب أسماء الآلهة.

تفسيرات مختلفة قدمت في الموضوع، إلا أن من الثابت إلى حد كبير أن هذه القدسية التي ضاعت نغماتها فيما ضاع من موسيقا، لم تكن محض "ألوهية" بمعنى اعتبار هذه الآلة "آلهة" يتعبد لها كالعبادة لدموزي وإيل وبعل وعشتار، بل بقدر العلاقة التي ربطت الفرد البشري المعذب بأمراضه مع أية أداة تسهم في علاجه وصحته، لا يختلف الأمر كثيراً عن "تقديرنا" للأشعة التي تستخدم في علاج بعض أنواع السرطانات، وإذ ندفع للمشفى فاتورته اليوم، فقد كانت الفاتورة آنذاك هي تقدمات نذرية لجهاز الأطباء الأقدم في التاريخ، الكهنة، الذين نظن أنهم كانوا أكثر حرصاً على صحة مرضاهم من بعض أطباء عصرنا.

نختم رحلتنا في عالم موسيقا الشرق العربي، بهذه الأنشودة السورية التي طالما رددتها حناجر صبايا "أوغاريت" بصوت "عناة" تغني للسلام والحب (من كتاب أناشيد البعل، حسني حداد، سليم مجاعص، دار أمواج، 1995، ص35):

"بالطل الذي سكبته عليها السماء

بالرذاذ الذي أنزلته عليها الكواكب

تضمخ ذاتها بالعنبر

تأخذ قيثارة بيديها

تضع جواهر على صدرها

وتنشد حبها للعلي بعل

ودها لفدرية بنت الندى

حبها لطلية بنت الندى

ودها لأرضية بنت العالم"    

خاتمة:

عبر رحلتنا هذه، اتضح لدينا أن مجتمعات المشرق العربي في إنتاجها الموسيقي كانت قد بلغت مرحلة من التطور الذهني والفكري جعل منها منارة إشعاع على العالم القديم لحقبة طويلة، انتقلت فيها معارفها إلى الغرب اليوناني وتطورت من هناك لتصبح هي الأخرى منارة في عالم الموسيقا والفن، فالموسيقا مَدِينة بانتشارها إلى كثيرين من المبدعين من أرض الحضارات والعراقة العربية.


المصادر والمراجع:

  1. Hans Hickmann, Musikgeschichte in Bildern: Agypten Band II Lieferung 1 (Leipzig: VEB Deutscher Verlag fur Musik Leipzig, 1961), pp. 83, 101, 129.

  2. أناشيد البعل، حسني حداد، سليم مجاعص، دار أمواج، 1995.

  3. The Defection of Ugarit Lyre- Matahisa KOITABASHI-Orient Magazine – Tokyo University

  4. Data Bank of Ugarit –Madid University

  5. مجلات أكاديمية متخصصة، أغلبها بالإنكليزية والفرنسية واليابانية.

شكر خاص: إلى كل من تابع هذا الملف، وإلى كل الأساتذة الموسيقيين الذين لفتوا انتباهي إلى قضايا لم أكن أعرفها عن الموسيقا العربية، وإلى إدارة المفكرة الثقافية التي تعاونت معي أتم التعاون لنشر هذ الفكر الحضاري الذي يعبر عن سورية والمشرق العربي التعبير الأصح، وإلى لقاء في سلسلة جديدة عن "عالم النحت المشرقي".