موسيقا الشرق من "أور" إلى "أوغاريت" (7)

كمال شاهين - اللاذقية

نوطة الموسيقا الأولى من "أوغاريت"

حاول الكثيرون ادّعاء أبوة هذه النوتة، شمالاً وجنوباً، ولعل في فرادتها ما يغري حقيقة بأبوتها، ذهب آخرون إلى الربط بينها وبين اللغة الحورية بما يشي بأجنبيتها، أما المغرمون بالتوراة من الغرب والشرق فقد بحثوا مطولاً عن اسم إلههم فيها في محاولة لإثبات "عبريتها".

لقد كان العثور على هذه النوتة الموسيقية الفريدة من نوعها في تاريخ البشرية حدثاً جللاً، إذ أنها المرة الأولى التي يعثر فيها على "تدوين موسيقي" حقيقي، مكتوب بلغة النوتة الموسيقية إذا جاز التعبير، فهذه الكتابات القليلة السطور وبعد أبحاث استغرقت عشرات السنين تبين أنها تنويط موسيقي حقيقي مكتوب بلغة موسيقية كان لزاماً فكّ شيفرتها.

عثر الآثاري الفرنسي، وأول منقب في أوغاريت "كلود شيفر" عام 1948 على ثلاثين من الرقم المسمارية مهشمة في معظمها في القصر الملكي، إلا أن واحداً من هذه الرقم كان شبه سليم، ولكنه مكسر إلى ثلاثة قطع، تم تركيبها معاً لاحقاً، وقد كشف هذا الرقيم عن السر الذي بحثت عنه البشرية مطولاً، كيف تم تدوين الموسيقا في تلك العصور الغابرة.

لقد كان من قدم هذه الإجابة، رقيم صغير لا يتجاوز حجمه 6 سنتمترات، هو الرقيم ح5 أو H6، وقد سمي بذلك نسبة للغة التي كتب بها وهي في الأعلى من الرقيم الحورية وتحتها الأكادية، وللتنويه فهذه التسمية سببت إشكالية في نسب الرقيم إلى "أوغاريت" باعتبار الحوريين شعب من العرق الآري وفق بعض الأبحاث الغربية.

قسّم كاتب النوتة وهو كاتب أوغاريتي حمل اسم "عمورافي" أو "حمورافي" الرقيم إلى جزأين يفصل بينهما بخطين مزدوجين متوازيين، في الأعلى أربعة أسطر، وفي الأسفل ستة، وكل منهما مكتوب بالحرف المسماري ولكن بلغة مختلفة كما تبين لاحقاً، كتب الجزء الأعلى باللغة الحورية (الميتانية)، والحوريون حكموا منطقة سورية الحالية وآسيا الصغرى في الحقبة بين 1800إلى 1500 قبل الميلاد، وبقيت لغتهم غامضة حتى أوقات قريبة، ولا يعرف سبب اختيار هذه اللغة بالتحديد لكتابة هذا الجزء، إلا أننا يمكننا أن نربط بين هذه اللغة والمعهد الموسيقي الذي  كان في "تل شاعر"، في الحسكة" باعتبار التوافق الزمني بينهما، بما معناه أن التدوين ارتبط بهذه اللغة لهذا السبب، ولكن بالمقابل لا نجد أي أثر آخر يدعم هذه الفرضية.

تتبع هذا «الرقيم» عددٌ من علماء الآثار واللغات، وكانت أولى التفسيرات ما قدمه العالم الأثري الفرنسي "عمانوئيل لاروش" ونشره في بحث بالفرنسية في مجلة "أوغارتيكا"، الكلمات المكتوبة هنا غير واضحة المعالم بدقة، بسبب غموض معرفتنا باللغة الحورية، إلا أنه تم تمييز بعض الكلمات في البداية (حتى عام 1984) لتتضح بكاملها تقريباً في مراحل لاحقة، وقد جاء في النتيجة أن الرقيم يحمل أنشودةً موجهة إلى "نيقال أو نيكالا" زوجة إله القمر.

تقول كلمات الأنشودة التالي: (الترجمة العربية لكاتب هذه السطور، ونشرت أول مرة على مدونة وطن، الرابط التالي :

"سأرمي عند قدمي الحق (أو قدمي عرشك المقدس) خاتم رصاص

سوف (أتطهر؟) وأتغير من (الخطيئة)

لم تعد الخطايا تغطيها ولا حاجة أكثر إلى تغييرها

قلبي مطمئن بعد أن أوفيتُ نذري

سوف تعزني (مولاتي)

ستجعلني عزيزاً على قلبها، فنذري سيغطي ذنوبي

وسيحل "زيت السمسم" بدلاً مني.

في حضرتك اسمحي لي

إنك تجعلين العاقر خصيبة

والحبوب تعلو صعوداً

إنها، الزوجة، التي ستحمل الأطفال إلى أبيهم

هي التي إلى حد الآن لم تُعط أطفالاً تحملهم...".

أما الجزء السفلي من الرقيم، فبعد سنوات من العمل المتواصل، تم الاستنتاج أنه يحتوي التنويط الموسيقي للأنشودة، وهذه كتبت بالأكادية المقطعية التي سادت في نفس الوقت كلغة في المنطقة، وهي من أصول العربية وتعتبر المرحلة الثانية لتطور البابلية ولاحقاً أصبحت السريانية نتاجها التالي، مع العلم أن هذه اللغة كانت لغة سائدة في المنطقة ككل (مثل الإنكليزية حالياً) إضافة إلى كونها من لغات الاستعمال التجاري والحياتي في أوغاريت الدولية.

بعد التأكد من احتواء الرقيم على نوته موسيقية جاء دور فك شيفرتها، المشكلة كانت أن هناك أرقام على الرقيم، في الأسفل، وهي ستة أسطر مدرج عليها أبعاد موسيقية بالاسم يلي كل بعد منها عدد يتراوح قيمته بين الواحد والعشرة.

كانت هذه الأبعاد الموسيقية وفق قراءة ربطت بين أسماء الأبعاد، والألواح الثلاثة التي وجدت في العراق وتضمنت في الأولى تعريفاً بأسماء أوتار الكنارة (وتصنيفها المتحفي الأن هو لمن يرغب بالبحث فيها Nabmtu 32U(30.11))، وفي الثانية تعداد أسماء الفاصلات الموسيقية (CBS)، والثالثة تقدم تعليمات لدوزنة الكنارة (U7/80)، وهذه اللوحات اكتشف بعضها بعد اكتشاف نوطه "أوغاريت"، وقد سهلت قراءة النوتة للباحثين المختصين.

تعاون الكثيرون لعزف المقطوعة، فكانت أول نتائج هذا التعاون حفلة موسيقية أقيمت في جامعة "بيركلي" عام 1975 للعازف "ريتشارد كروكر" بعد تنويط المعزوفة من قبل "آن كريمر" والعالم الإنكليزي "وولستان"، وتتالت المحاولات حتى أصبحت من الكثرة بمكان، ولكن بقيت كلها دون المرتجى.

ولكن السر الذي استعصى على فهم الكثيرين التقط مفتاحه الباحث السوري "راؤول فيتالي" وهي كلمة "نيد قبلي" المكتوبة على الرقيم، وهي اسمٌ لمقام موسيقي "بابلي" يشبه مقام الكرد بالموسيقا العربية حالياً، إضافة إلى فهم روح كتابة الترنيمة نفسها على الرقيم، فبما أن هناك أرقاماً وأبعاداً مذكورة في الرقيم، وبما أن اللغة الأكادية لغة مقطعية لا تعرف الحرف المفرد، فقد استنتج الباحث "فيتالي" أنه يجب عزف جميع النوتات الواردة على الرقيم حسب الأبعاد الموجودة على الرقيم كل بُعد بعدَ الآخر، وهذا يفسر سبب وجود الأرقام على الرقيم، وتوصل إلى أن كل مقطع صوتي هو عبارة عن وحدة إيقاعية وحدها، وكل ثلاث وحدات تشكل قياساً موسيقياً "بُعد" والزمن في لوحة التدوين مثل زمن موسيقا الفالس: (صول – لا – سي)، ويصبح لدينا بذلك موسيقا على السلم الثلاثي وهو أساس التنويط الذي وجد في "بابل" العراق (وليس السباعي) يتوافق فيها الكلام واللحن ولها مقدمة موسيقية وخاتمة.

وتكون خلاصة قراءة "فيتالي" هي التالية: "السطر الأول هو من النوتة هو مقدمة موسيقية دون كلام، والسطر الثاني والثالث والرابع والخامس من النوتة هو لحن للبيت الأول والثاني والثالث والرابع بالتسلسل للأنشودة، أما السطر السادس والأخير من النوتة فهو عبارة عن خاتمة موسيقية دون كلام" ().

عزفت المقطوعة الموسيقية بتنويط الراحل "فيتالي" خلال الاحتفال بذكرى ذهبية اكتشاف "أوغاريت" عام 1979 في قصر البلدية في مدينة "اللاذقية" من قبل الموسيقي "زياد عجان" الموجه الاختصاصي لمادة التربية الموسيقية في "اللاذقية"، وعزفها على البيانو بإصبع واحد أمام جمهرة من علماء الآثار الغربيين والسوريين، وقد أذهل عزف الترنيمة الحاضرين واعتبرت هذه المحاولة هي المحاولة الأنجح في تاريخ البحث عن ترجمة لهذا الرقيم، ومن بين العلماء الذين أطروا على هذه المحاولة الناجحة العالمان "ويست" و "أو. ر.غيرني" ().

إلى اليوم، ما زالت الدراسات والأبحاث تنتظر فك الشيفرة الحورية بشكل أفضل ليصار إلى إعادة قراءة النوتة الأوغاريتية بشكل جديد، ومما لا شك فيه أن هذه المقطوعة ستبقى علامة فاصلة في تاريخ الموسيقا في العالم أجمع.


المراجع:

1.      الحياة الموسيقية العددين الثالث والسادس، دراسة النوتة الأوغاريتية للراحل راؤول فيتالي.

2.      Schaefer cuneiform ugarit، منشورات الأكاديمية البريطانية، 1939، بالإنكليزية.

3.      UGARITICDATA BANK، كامل نصوص أوغاريت بالحرف الإنكليزي، مشروع تحويل التراث العالمي إلى رقمي، منشورات LABORATORI O DE HERMENEUMATICA، مدريد 2003م.

4.      أخبار أوغاريت في مراسلات تل العمارنة، د. فاروق إسماعيل، مجلة دراسات تاريخية، العددان 101 و102، آذار –حزيران.2008