موسيقا الشرق العربي من "أور" إلى "أوغاريت" (5)

لمحات موسيقية من سورية الحضارة

كمال شاهين - اللاذقية

لقد ظهرت في الكشوفات الأثرية للمنطقة عدة أنواع من الآلات الموسيقية، النفخية والوترية والإيقاعية، فهناك "الكنارات، والطبول، والجلاجل، والصاجات، والناي المفرد والمزدوج، والهارب والقوس" الذي أصبح ربابة وكماناً في عصرنا هذا، ولعل أكثرها شهرة كأدوات موسيقية "كنارات أور" الأربعة التي اكتشفت في المقبرة الملكية في "أور" جنوبي العراق عام 1929

الموسيقا في بعض الأساطير:

نسبَ الإنسان المشرقي اختراع الموسيقا إلى مجمع آلهته تكريماً لها وله، وإحدى أقدم الأساطير المعروفة لنا، وتذكر الموسيقا هي قصة "قدموس" ملك "صور" الذي تزوج من "هارموني بنت "مارس وفينوس"، فاشترك الأرباب[1] في حفلة زواجهما، وإلى "هارموني" حسب الأسطورة إياها، يعود فضل نقل المعارف الموسيقية إلى الناس.

أنجبت "هارموني" ثلاث بنات، أعطت كل منهما اسماً لقارة من قارات العالم القديم بعد حكاية أسطورية جميلة، تذكر أسطورة الأميرة "أوروبا" شقيقة "قدموس" وأخت "آسيا وليبيا" (ليبيا هو اسم قارة إفريقيا القديم) كيف أن الأميرة "أوروبا" كانت تتمشى على شاطئ البحر، حين لمحت "ثوراً أبيضَ جميلاً" فلمسته ليخرج منه خوارٌ موسيقي (أجمل من عزف "القيثارة")، لقد كان الاله "زيوس" متجسداً في هيئة ثور، اختطفها إلى عمق البحر وسط مجموعة من "أرباب البحر" تركب الدلافين وتنفخ في "الأبواق".

في الطقوس التموزية أيضاً، تندب "عشتار" حبيبها "بعل" ومن ثم "أدونيس" قائلةً: "لقد أصبح قلبي كالناي الحزين"، و"عناة" التي هي إحدى تجليات وصور عشتار، عرفت باسمها "كضاربة على آلة الدف"، وجلجامش الملك العظيم أهداها آلتين موسيقيتين، قد يكون أحدها "الهارب" الذي ينسب اختراعه في الأسطورة الرافدية إلى الإله "إنليل" ربّ النفس والأرواح والأرض، وإلى "إنكي" الإله القادم من "السماء" نسبت الميثولوجيا الرافدية اختراع النوطة الموسيقية والتدوين الموسيقي.

وفي الملحمة ذاتها، كان "أنكيدو" إنساناً متوحشاً يعيش مع الحيوانات في الغابة، وبسبب قوته تغلب على "جلجامش" في منازلته الأولى معه، لقد كان كائناً "بكراً"، اقترحت "عشتار" لترويضه أن يتعرف على العالم بطريقة مبتكرة، لقد أرسلت له غانية المعبد التي علمته فنون الحياة، فبقي معها "سبعة أيام وسبع ليال" عرفته فيها على الموسيقا والغناء والرقص، ف"ابتعدت عنه الحيوانات"، وأصبح من ثم صديق الملك المخلص.

لقد كانت الموسيقا والغناء إحدى السبل المهمة لانتقال الإنسان من طور "الوحشية" إلى "الأنسنة" بمعناها المعاصر، الحضاري، فانتشرت مدارس تعليمها في المشرق العربي، ولسوء الحظ لم يبق من أثر تلك المدارس سوى بعض الكتابات المنثورة على الألواح الطينية هنا وهناك، منها على سبيل المثال، مدرسة الملك الحوري التي كانت في "تل شاعر" (تل جاغزل) في الحسكة والتي ذكرها ملك "ماري" في رسالة موجهة للعاهل الحوري يرجوه فيها الموافقة عل تعليم ابنه الموسيقا، ولا يخفى ما في هذا الطلب من إشارة مهمة جداً إلى علو شأن الموسيقا في المجتمعات الملكية والشعبية على حد سواء، ويبدو أنه لم يكن يسمح لمن يشاء بتعلم الموسيقا إلا بعد الخضوع إلى اختبارات معينة، ونجد جذر اختبارات اليوم في تلك الممارسات القديمة جداً.

يخبرنا أحد الرقم الأثرية التي وجدت في مدينة "لكش" (حالياً في العراق) عن اختيار موسيقي ليقود فرقة الإنشاد في معبد "ننخرسو" الكبير، أما في مدينة "ماري" القريبة، فتظهر ملكتها "شيبتو" زوجة الملك الأعظم "زمري ليم" لتدير شؤون القصر الملكي، وتختار من "الصبايا" من تراها مناسبة لتعلم العزف على (الكنارة) والدفوف وآلات أخرى وترية أحدها شبيه بآلة العود.

وفي "ماري" نفسها وجد العديد من "نتف" من أناشيد وقصائد غنائية كانت ترافق العازفين، وعن رسوم لعازفين على أواني الطهي الكبيرة المخصصة للأعياد، أيضاً في "ماري"، كما يقول "ريتشارد دمبرل" من المعهد الموسيقي الفرنسي في حديث سابق مع "مدونة وطن"، كان هناك مصنع لإنتاج الآلات الموسيقية، ومنها مثلاً: (آلة باخاتشيتوم -كيناروم – الليئوم – الابينوس – البيتنوم)، وهي عبارة عن كنارات صغيرة لكن معظمها ثقيل الوزن.

 كما كان التجار يقومون بالتنقل بين "إيران" و"ماري" عبر دجلة لشراء الآلات الموسيقية، التي كانت تحملها الفتيات في المحاضرات، وهذه انتقلت من ثم إلى بلاد الموره (اليونان)، وكانت مغطاة بالذهب والأحجار والفضة، وفي مملكة "ماري" كانوا قادرين على صنع نسخ من الآلات الموسيقية المصنوعة في "إيران" لأنها تتطلب معالجة بالزيوت وغيرها من المواد (للباحث السابق ذكره).

ولا يمكن أبداً، تركُ مدينة "ماري" دون ذكر مغنية المعبد الأشهر "أورنينا"، التي حمل مهرجان الأغنية السورية اسمه من حضورها في الذاكرة المشرقية، فهذا التمثال الصغير الذي تعرض لكسر يدي العازفة ـ يبدو أنها كانت تحمل آلة موسيقية بينهما ـ هو عبارة عن تقدمة نذرية من العازفة، وقد عرفنا اسمها من الكتابة على ظهر التمثال المقدّم لمعبد من معابد "ماري" الرئيسية، وقد كانت كاهنات المعابد العذراوات ذوات قيمة عليا في تلك المجتمعات، لقد مثلن الطهارة الجسدية والروحية والصُنعة الأهم وهي العزف على الآلات الموسيقية.

بعض الآلات الموسيقية المكتشفة في سورية:

في مدينة "حماة"، وفي بلدة "مريمين" تحديداً، تم العثور على لوحة فسيفسائية هامة تمثل فرقة موسيقية من العازفات يقمن بالعزف على آلة "اللير" والطاسات المعدنية والدفوف والصناجات والأورجن، وهي تنتمي لسورية الرومانية، و"اللير" هي آلة موسيقية من مشتقات الكنارة، وصورة هذه اللوحة تزين اليوم ورقة الـ 500 ليرة سورية الجديدة.

المميز في لوحة "مريمين" هو وجود سيدة تتمايل "بصنجين" تحملهما في يديها، تليها فتاة تحمل قيثارة، ومن ثم فتاة تقف وراء منضدة تحمل ثمانية أوانٍ معدنية مُتماثلة الشكل، ومختلفة في منسوب المياه في داخلها. تقوم السيدة كما توضح الصورة بنقرهِنّ بواسطة قضيبين تحملهُما لتصدر أصواتاً موسيقيةً مختلفة، كما تقف فتاة الناي في وسط اللوحة، تليها فتاة تعزف على لوحة المفاتيح الخاصة بالأرغن المؤلّف من أنابيب ذهبية بثلاثة أحجام مختلفة، أمّا الملاكين المُجنّحين فيقومان بالضغط بأقدامهم الصغيرة على قربتين جلديتين لكي تصدح أنغام الأنابيب! تقول الدكتورة البلجيكية "دوشيسن جيلمان" أن لوحة "مريمين" زودت الباحثين بوثيقة فنية عن كيفية العزف على الأورغن في تلك الأيام، أماالسّيدة في أقصى اليسار، فيُرجّح أنها المايسترو الناظم لتلك الفرقة الموسيقية.

وإلى "إيبلا"، صاحبة المكتبة الملكية الأشهر في تاريخ المشرق القديم، فقد عثر فيها على عدة آلات وتماثيل مرتبطة بالموسيقا، منها تمثال فخاري يمثل موسيقيّ مع آلته الموسيقية، وبما أن المدينة إياها كانت عاصمة تجارية متطورة بين الألف الثالثة والثانية، في التزامن مع الحضارة الرافدية أمكن لنا تخيل الوضع الموسيقي في تلك المنطقة.

في الجنوب السوري الحالي، عثر في "درعا" على أجراس برونزية مختلفة الأشكال والأحجام، ولعلها المنطقة الأولى التي ظهر فيها هذا النوع من الأدوات الموسيقية التي كان استخدامها نادرٌ في الفترات قبل التاريخية، إلى أن اعتمدت في الليتورجيا المسيحية كعلامة فارقة لها، كذلك اكتشف فيها أجزاء من مزامير برونزية الصنع اكتشفت في موقع "أم حوران" قرب "نوى".

أما في السويداء، التي شهدت ذرى تطوراتها خلال المرحلة الرومانية تمثلت في استلام ابنها "فيليب العربي" سدة العرش في روما، فقد عثر على لوحة فسيفسائية في قصر الحاكم المحلي لمدينة "شهبا"، تمثل الشاعر الموسيقي "أورفه"، وتمثال آخر له يحمل آلته الموسيقية الأشهر "اللير"، وهما اليوم في متحف السويداء الوطني، ولا يمكن نسيان قاعة الموسيقا "الأوديون" في مدينة "القنوات"، وهي لوحدها تستحق مادة مستقلة.

هذه الأدوات الأثرية الهامة المتنوعة العصور والنوعيات، والتي وجدت في مختلف المناطق السورية (ذكرنا بعضاً منها فقط)، يمكنها أن تشكل نواة لمتحف خاص بالآثار الموسيقية المشرقية، مثله مثل متحف الملابس الشعبية.

 

المراجع والمصادر:

1-     الباحث "علي القيّم" في كتابه "الأبجدية الموسيقية"، دار إنانا، سلسلة الدراسات الأثرية. دمشق. 2002

2-     مجلة الحياة الموسيقية، بشير زهدي، العدد الأول، دمشق، شتاء 1993

3-     ملحمة جلجامش، تحقيق طه باقر، الشؤون الثقافية، بغداد، 1978.

4-     مقال صحفي في جريدة "الفداء" للأستاذ همام كدر عن لوحة "مريمين"، 31 آذار 2009.



[1]
هناك فكرة مغلوطة دوماً عن هذه الكلمة، فهي لا تعني الرب بمعناه المعاصر، وهي تعني بالمختصر مساعدي الآلهة الأساسيين، وتقترب من معنى الملائكة والكروبيين في الفكر الديني المعاصر بكل أديانه.