موسيقا الشرق العربي من "أور" إلى "أوغاريت" (4)

الموسيقا بين الديني والإنساني

كمال شاهين - اللاذقية

لعبت الموسيقا دوراً كبيراً في حياة الشعوب المشرقية، وهذا الدور لم يكن مناطاً فقط بالدور الديني كما يقول بعض الباحثين، بل تكامل بين شقيه الحياتي والروحي بأشكال كثيرة.

كان الكاتب "سوفوكليس" سيد المسرح اليوناني قبل ألفي عام يقول: "إن الموسيقا شرقية"، وإذا كانت الموسيقا أكثر أنواع الإبداع ضياعاً في الزمن القديم، فإن الألواح الطينية والأدوات الموسيقية التي اكتشفت في المنطقة، قد حفظت للبشرية بعضاً من أهم القصص والروايات التي كانت تتلى في الحفلات الشعبية والاحتفالات الدينية والطقسية.

يصعب الحديثُ هنا عن موسيقا مشرقية ينفصل فيها الديني عن الدنيوي، وهذا الفصل تعسفي الذي يبحث عنه كثير من باحثي الغرب، يرى تلك الحضارات بمنظاره الفكري الراهن، ويحاول سحب آراءه وثقافته الراهنة إلى تلك الحقبة من الزمان، حين كانت البشرية تسعى في أولى خطواتها لعيش العالم بدل تفسيره بتوأمة الزمان والمكان، وقد كان "مرتشيا إلياده" في كتابه "البحث عن التاريخ والمعنى في الدين" واضحاً تماماً حين قال: "إن إنسان المجتمعات الغابرة حين يقلّد أو يمثّل الأقوال والأفعال الأسطورية لبطل أو إله، فإنه يفصل نفسه عن زمن دهري فانٍ، ويدرج نفسه في الزمن الأكبر، الزمن المقدس" (مقدمة الترجمة العربية لكتابه، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2007).

فالإلهي لم يكن وقتها سوى البشري متعالياً على الموت فقط، وحتى فكرة الموت في حد ذاتها، لم تكن سوى ترجيع صدى لحياة أخرى، حملت فكرتها الأديان التوحيدية التالية التي خرجت من نفس الثوب، وإن برؤية مختلفة، لقد كانت الاحتفالات بأعياد رأس السنة في نيسان (أوكيتو) في المشرق العربي تعبيراً عن "بدايات جديدة تعيد تفعيل أساطير الخلق السائدة لديهم" (المرجع السابق).

من المؤكد أنه كانت هناك موسيقا مستقلة خارج المعابد، وغناء يرافق نشاطات الحياة الاقتصادية والاجتماعية، خاصة طقوس زراعة المواسم الجديدة، وباستخدام آلة الناي أو المزمار، أقدم الآلات التي عرفها الإنسان في العالم، وهي ما تزال حية حتى الآن في كثير من المناطق المشرقية من الساحل السوري إلى جبال "العراق"، يؤكد هذا الأمر حضارة "ماري" التي ذكرت في وثائقها وجود عازفين متجولين حملوا الاسم "زاميرو"، ولا يخفى ما للاسم علاقة بالكلمة "المزمار" و"الزمور" و" الزمر "، التي هي آلة نفخية قصببية لا تزال حية لدى عرب البادية.

الموسيقا الدينية إذا جاز التعبير لم تكن مفصولة بالمعنى المفارق للإنسان بقدر ما كانت طقساً يعيشه الإنسان في تلك المجتمعات كجزء من مسار اليومي الحياتي، ليعلو في الطقوس الكبرى (الأعياد المرتبطة بألوهية الملك والدورة العودية الكبرى) إلى حد الاندماج الكلي مع الكتلة المجتمعية في طقس استعادة للحياة والموت في أثواب الربيع والخريف والمواسم الجديدة وغيرها من الطقوس.

لقد كانت للمعابد فرقها الموسيقية الخاصة، وهذه تتضح مثلاً من قائمة ملوك "أوغاريت" التي ضمت أسماء لبعض العازفين والمغنيين المستخدمين في البلاط الملكي والمعابد سوية، كذلك في "سومر" و"بابل" كانت الطقوس المقدسة نفسها تستمر لأيام وليال "فتمر حشود الناس أمام المنصة الملكية وهي تهتف وتصفق على أنغام الآلات الموسيقية المختلفة، وعندئذ يقدم الطعام والشراب بسخاء" (طقوس الزواج المقدس، د. فاضل عبد الواحد علي، المجلة التاريخية، العدد 2، بغداد،1972).

من الواضح تبعاً لمنظورنا في الوحدة الحضارية لمنطقة الشرق العربي، تلك التي تشكل كتلة بشرية واحدة وامتداداً جغرافياً واحداُ، أن تكون هناك تأثيرات متبادلة بين شطري المنطقة القريبين، الرافدي والشامي، والأبعد قليلاً، المصري، فالأناشيد التي تغنى هناك تغنى هنا والعكس صحيح، وفي نماذج كثيرة في التنقيبات الأثرية وجدت نسخ متعددة لنفس التراتيل والروايات الشعبية والملاحم في "أور" و"نينوى" و"ماري" و"إبلا" و"أوغاريت" وأكثرها شهرة ملحمة "جلجامش" التي تذكر بعض الأبحاث أنها كانت تعزف على عدة آلات منها "الفلوت".

تتضح العلاقة الإلهية الإنسانية أيضاً مع الموسيقا في العهد التاريخي المسمى عصر صعود الذكورة في المشرق العربي، بدءاً من الألف الأولى قبل الميلاد، فقد بدأت العبادات الأمومية بالتراجع أمام صعود نوع من التوحيد غير المرئي، ولكن الواضح في تراجع الرموز الأنثوية من الفن والنحت والرسم والألواح الطينية، مقابل بروز آلهة لم تفك عرى الارتباط مع أمهاتها من الآلهة، ولكن تلك الألالهات الأموميات انتقلن إلى الصف الثاني من حيث الأهمية.

في الاحتفالات الدورية الكبرى التي شغلت المنطقة، وهي أعياد رأس السنة وبدء فصل الربيع كانت تقام الاحتفالات الكبرى للآلهة التي تمخضت بعد مسار تطوري عن احتفالات مركزية بالإله "دموزي" السومري الاسم (تموز، وبعل وإيل وأدونيس في أسمائه المتعددة) حيث يقترن بحبيبته "إنانا" (هي من مشتقات عشتار أيضاً، أفروديت في اليونان، عشيرة في أوغاريت... الخ)، وفق احتفالات تستعيد قصتهما في الحياة والموت ومن ثم البعث عبر علاقات متداخلة الآلهة والوظائف، كل هذه الدراما وفق موسيقا وأغاني ذكرت في الملاحم الكبرى في الشرق العربي.

من أجواء تلك الملحمة التي تتعلق بالموسيقا نقرأ الترنيمة التالية، التي تأتي بعد مجموعة من الأحداث القاسية حيث يغيب الإله "دموزي" في باطن الأرض بعد اختطافه من قبل "الشياطين"، فتعود البكائيات بإيقاع أكثر حزناً وألماً حقيقياً، ذلك أن ندب الإله الميت والتفجُّع عليه والمبالغة في إظهار الحزن هي أدوات سحرية، تعينه على فكِّ قيوده في عالم الأموات واكتساب القدرة على مقاومة قوى الفناء، كما يقول الباحث "فراس السواح".

في هذه البكائيات ترنيمة تشترك فيها نسوة دوموزي: أمه وزوجه وأخته. لقد أرسل الإله في طلبهنَّ إلى ملجئه في الصحراء؛ وعندما وصلن إلى الزريبة التي يتوارى فيها وَجَدْنَ أن عفاريت الظلام قد خطفت دوموزي:

"على ناي القصب،

قلبي يعزف ترنيمةً على ناي القصب.

لأجل ذلك الشريد في الصحراء،

قلبي يعزف ترنيمةً على ناي القصب.

في مرابعه، في روابي الرعاة،

قلبي يعزف ترنيمةً على ناي القصب.

في مرابع مَن أمسى اليوم حبيسًا،

في مرابع مَن أمسى اليوم أسيرًا،

قلبي يعزف ترنيمةً على ناي القصب (من الطقس والأسطورة، فراس السواح).

يُذكر الناي في كل هذه الأناشيد الملحمية، فإذا انقلنا إلى "أوغاريت" نجد مقطعاً من الرقيم KTU1.108يقول:

"يحاكم إيل وحدّو

الذي يغني ويعزف على الناي والقصبة،

على الطبل والقيثارة بين الراقصين" (ثقافة أوغاريت، شيفمان).

وسنفرد موضوعاً خاصاً للموسيقا في "أوغاريت"، وبالعودة لطقوس الخصب التموزية نجد أنها ملأت الشرق العربي بكامله مدة من الزمان لا تقل عن ألفي عام بقيت بعض جذورها في العبادات التي تسللت إلى المنطقة خاصة التوحيدية، فالاحتفالات الدينية المعاصرة التي تقيمها الكنيسة المشرقية تستخدم في بعض أعيادها الناي، كما أن الاحتفالات الشعبية ذاتها تستخدم شبيهاً بالناي، إنما له قدرة على تنفيذ مقامات موسيقية أعلى وأوسع ومنها "المجوز" الذي يستخدمه البدو، والطبول المنتشرة في طول المنطقة المشرق وعرضها بأشكال كثيرة.

في النتيجة، إن الموسيقا في المشرق العربي لم تكن مجرد إبداع يخلو من الوظيفة، بل كان في عمق كل الموسيقا والأغاني التي رددت صداها المنطقة، علاقة عضوية بالبيئة كما بالدين كما بالإنسان، الحامل الأساسي لكل هذه الميثولوجيا بطريقة تطعّم فيها الإلهي بالإنساني وبالعكس، وفي هذا المجال الروحي المفعم بجزء كبير منه بالحزن، لا نستغرب أبداُ امتداد الميثولوجيا بطرق يغيب فيها جذرها الديني ليبقى الهيكل ملبوساً هذه المرة بغطاء توحيدي، ولنا في احتفالات كربلاء خير مثال على هذا.

في تنوع المناطق المشرقية التي شهدت اكتشافات موسيقية لجهة الآلات والتدوين وغيرها، تبدو الوحدة الحضارية لهذه المنطقة عصية على التمزيق، رغم السعي الدؤوب لنقل هذه الصورة إلى الأذهان، وهو ما وقع فيه كثير من باحثينا الذين يعتمدون على الترجمة والنقل دون العقل، والعثور على رقم مسمارية تتحدث عن "سلم موسيقي" في القرن الماضي، أعاد إلى المشرقيين ما ادّعت به كثير من دوائر العلم الغربية من أن السلم الموسيقي المعروف عالمياً من اختراع "فيثاغورث" اليوناني.

لقد اتضح أن "فيثاغورث" لم يأخذ السلم البابلي المكتشف في "سومر" و"بابل"، من "بابل" نفسها بل من "مصر"، حيث كان هذا السلم متداولاً في منطقة المشرق العربي كله، فقد كانت لإله الموسيقا "أوزيريس" فرقة تضم أمهر العازفين وكانت تعزف في الاحتفالات العامة بما يمكن أن نسميه اليوم فرقة أوركسترالية حقيقية.