موسيقا الشرق العربي: من "أور" إلى "أوغاريت" (1)

كمال شاهين - اللاذقية

ولادة الموسيقا في الماء.. بين القصب

(هذه المادة، مهداة إلى روح الفنان الراحل "عصام الخطيب"، ورفيق دربه "مازن الخطيب")

 

في البحث عن الأصل

لم تكن الموسيقا ولا الغناء المرافق لها في يوم من الأيام نتاجاً لعقل واحد ولا لحضارة واحدة بالمعنى المعاصر لكلمة "الأصل"، بقدر ما كانت اشتغالاً إنسانياً عمومياً يضرب جذوره في عمق تساؤلات الإنسان، وفي صلب وجوده الفيزيائي كائناً "مفكراً" يقلّدُ الطبيعة ويسمو عليها محاكياً ثم مخترعاً، ولكنها بالمقابل شهدت لحظات أولى التقطتها حضارات باكرة، ثم تطورت بالتدرج تصاعداً إلى منجز إنساني مكتمل.

والبحث عن أساطير "الأصل"، سمة إنسانية مجتمعة لكل الأقوام في تأسيسها المتخيل أو الواقعي لماض "عريق" لها صاعدٍ نحو مستقبلها برؤية تتمسك بأهداب الأوائل من أبنائها، وهنا في "المشرق العربي" لن نعدم أبداً الحديث عن انبثاق من "هيولى الوجود الأولى" لحضارة تخرجها أرض المشرق، وتستمد إشراقها الثري من لحظة الوعي بالتدوين المحرفي المبسط بعد قرون من الكتابة التصويرية والرسوم.

تلك اللحظة احتاجت خمسة آلاف عام قبل الميلاد حتى تجسدت في آخر تجلياتها بثلاثين حرفاً "أوغاريتياً" مقروءاً بسهولة، ومكتوباً بحرف مسماري ابتدعه "رافدي"، مشرقي هو الآخر، في ذروة أخرى من ذرى الانبثاق من هيولى الوجود الأولى تلك، ويرى كثير من علماء العالم اليوم هذا الرأي بعيداُ عن العصبية الإغريقية، كما هو حال العالم الفرنسي "بيير روسي" في كتابه "إيزيس، التاريخ الحقيقي للعرب".

ظهور "الأصل" في أرض المشرق العربي في كثير من المنجزات الحضارية لا يلغي أن هناك منجزات انبثقت في بقاع أخرى من الكوكب، حتى أن هناك بعض المنجزات المتماثلة ومنها في الموسيقا الشيء الكثير، توزعت على العديد من الحضارات المتزامنة التوقيت، كالحضارة الصينية والمشرقية العربية وحضارة الهنود الحمر في أمريكا اللاتينية.

إلا أن المشكلة اليوم أن الحضارة "الغربية" السائدة في العالم تبحث دائماً عن أبوة لهذه الأصول فترد كل منجز إنساني إلى "اليونان"، الذين لم يكونوا سوى امتداد للحضارة المشرقية العربية، هذه الفكرة، وعرابها الكاتب السوري "أحمد يوسف داؤود" في كتابه "عودة الزمن العربي" تجد صداها في الفكر اليوناني نفسه، فقد تحدث "هوميروس" الشاعر الإغريقي عن أن اليونانيين ذوي أصول "سورية" يعني من أرض المشرق العربي اليوم.

وطالما أن هناك ما يؤكد هذا "الأصل" حضارياً من لقى أثرية وألواح وأختام ومدن ما تزال تنبض بعد آلاف السنوات على انبثاقها ذاك، فإنه من الممكن النظر إلى المشهد الحضاري الحقيقي كمشهد متكامل، لكل دوره فيه، دون أن يعني ذلك انتقاص حقيقة المنجز الحضاري المشرقي ولا أي منجز آخر.

ولدت الموسيقا بين قطرات الماء والقصب

يقول "جيمس فريز" صاحب الغصن الذهبي ما معناه "إن توافر البيئة الطبيعية المناسبة للاستقرار في المشرق العربي في حقبة الألاف العشرة قبل الميلاد جعل انبثاق الحضارة من هنا ممكناً، كذلك كان الأمر للصينين والهنود الحمر في أمريكا اللاتينية والوسطى، في الوقت الذي كانت فيه أوروبا مغطاة بالجليد حتى الألف السادسة والخامسة قبل الميلاد".

كانت منطقة المشرق العربي (بلاد الرافدين والشام ومصر) هي البلاد الأولى التي شهدت استقرار الإنسان العاقل في الحقبة بين (12-8) آلاف عام ق.م، تشير اللقى الأثرية إلى ذلك بوضوح بالغ، فحضارة "أوغاريت" وفق الأسبار الأثرية بدأت رحلتها في الألف الثامنة ق.م لتصل إلى ذروتها في 1200 ق.م، في حين كان إنسان "تل النطوف والعبيد" العاقل قد انتهى من مرحلة الالتقاط والرعي قبل ذلك بحوالي 30 ألف عام، ولهذه الانبثاقات أمثلة كثيرة جداً في منطقتنا.

ومن حسن الحظ أن "سورية" توفر لنا سجلاً متكاملاً للتحولات المناخية والحياتية التي حدثت في ذلك الوقت في المنطقة المشرقية والعالم، كما في مستوطنة "أبو هريرة" المغمور ة حالياً بمياه سد الفرات، فقد تمكن عالم الآثار البريطاني «أندرو مور» في السبعينيات من القرن الماضي من سبر أعماق هذا الموقع الذي تبلغ مساحته 11,5 هكتار، وسجلت حفرياته الدقيقة، التقويم الزمني لحياة "النطوفيين" ومعاصريهم في الألف الحادي عشر قبل الميلاد بما يقدم صورة واضحة عن الاستقرار البشري وانتقاله من حياة الالتقاط إلى حياة الزراعة ثم الإبداع الإنساني بمختلف المجالات.

بعد مرور وقت كاف على الاستيطان البشري، بدأ الناس رحلتهم خارج مثلث الأمان (الاستقرار، الطعام، الأمان) إلى عالم الإبداع والفكر وبناء المدن والدول والإمبراطوريات الكبرى، وعلى هدي هذا التطور الذي استغرقت فيه عملية بناء الأسئلة والأجوبة ردحاً كافياً من الزمان، ظهرت الموسيقا والأغاني والقصائد والآلهة والأديان أيضاً.

الموسيقا ... عباءة الآلهة:

ظهور الموسيقا كإبداع موازٍ للطبيعة، لم يخرج عن عباءة الأسئلة الوجودية التي ربطت الإنسان بظاهرة أخرى هي التدين، والتعبير الأسمى الذي ابتدعه المشرقيون العرب (كما الصينيون وهنود أمريكا اللاتينية) كان الغناء والعزف والرقص والاحتفالات الجماعية للآلهة التي شاركت عابديها فرحهم وترحهم شريكة فاعلة ومؤثرة في بناء تصور درامي للعالم وللحياة بعد الموت وللانبثاقات الأولى للمواسم الزراعية.

لقد كانت تلك الآلهة جزءاً وكُلّاً جوهرياً يغلف تلك الأيام ولم تكن ولو للحظة مفارقة جوهرها الإنساني، لذلك كانت أقل دموية بكثير من ألهة التوحيد الذكورية اللاحقة التي انفصلت عن إنسانيتها لتغدو آلهة في الطابق الثاني للوجود.

لم تتلبس تلك الآلهة، فيما تلبست في وجهها المتكامل، وجه الموت الأسود إلا لأنه استكمالٌ لوجه النضارة والخَضار والاهتمام بعابديها؛ فكانت احتفالات بدء فصلي الربيع والخريف في كل المنطقة المشرقية تعبيراً عن تلك العلاقة الوثيقة التي جمعت الآلهة إلى البشر في كُلّ واحد، سعى كل طرف فيه إلى مراضاة الآخر عبر التمثلات الطقسية والترانيم والأغاني والابتهالات، وقد استمرت هذه الطقوس لسنوات خلت بعيداً عن فكرتها الدينية كما هو الحال في عيدي "الرابع" في الساحل السوري، وعيد "شم النسم" في مصر.

والسؤال الكبير الذي رافق اكتشاف هذه الأدوات الموسيقية الكثيرة في الشرق العربي، كيف تم تدوين الموسيقا هذه؟

هل بقيت تعزف دون قواعد ومناهج محددة لها في ظل اكتشاف قصائد غنائية كثيرة، بعضها طويل، وبعضها الآخر يضم "جوقات" من المنشدين، تصل في بعض الأساطير المهمة طقسياً ودينياً إلى المئات، مثل أساطير الخلق و "عندما في الأعالي" و"رحلة جلجامش" و"ملحمة دانيئيل" و"أقهات" و"صراع بعل ويم"؟

كيف كان يتم تدوين كُل هذا الكم الهائل من الشعر الغنائي في معظمه؟

في رحلة "تدوين" الموسيقا ظهرت إشكالات كثيرة لم يكن أبداً من السهل حلها، فكيف يمكن تدوين الصوت؟

يمكن رسم المعارك والوجوه والطبيعة والحيوانات ومختلف حالات النشاط البشري، ولكن الصوت ـ بحكم كونه ظاهرة فيزيائية لحقت لغة الإشارة حسب الباحثين ـ بقي لغزاً حتى عهود قريبة تم فيها فهم الصوت فهماً علمياً فيزيائياً يرتكز على مفهوم "الاهتزاز" و"التواتر" و"المطال" و"الشدة" وغيرها من المفاهيم الفيزيائية الحديثة.

حتى اليوم، لا يوجد في العالم نوطه موسيقية قديمة سوى تلك التي عثر عليها في "أوغاريت" خمسينيات القرن الماضي، مع العثور على كمية كبيرة من الآلات الموسيقية في مختلف الحضارات الإنسانية وخاصة المشرقية والصينية (بما في ذلك الحضارة الفارسية)، ونستطيع القول مرة ثانية، إن الموسيقا القديمة هي الأكثر ضياعاً من أي منتج إبداعي آخر عبر تاريخ البشرية، ولذلك تلقت نوطه "أوغاريت" عظيم الاهتمام العالمي عند العثور عليها والتأكد أنها تحتوي نوطه موسيقية.

 

 

المراجع

    "بيير روسي"، صاحب كتاب "إيزيس، التاريخ الحقيقي للعرب" ترجمة فريد جحا، وزارة التعليم العالي، دمشق، 1979.

    الغصن الذهبي، سير وليم جيمس، ترجمة د. أحمد أبو زيد، الهيئة المصرية للكتاب، ج1، 1971

    عن الباحث العراقي "سلام طه". http://www.abualsoof.com/inp/view.asp?ID=60

    الصيف الطويل، برايان فاغان، سلسلة عالم المعرفة، العدد 340.