مجلة الشرطة والأمن العام – محمد كرد علي

إعداد الدكتور مهيار الملوحي

صدر العدد الأول من مجلة الشرطة والأمن العام في آذار عام 1953 في دمشق، وكان قد صدر قبل ذلك في عام 1921 مجلة (الشرطة) عن مديرية الشرطة العامة، وجاء في مجلة (الشرطة والأمن العام) أنها تصدر عن المديرية العامة للشرطة والأمن.

وكانت حسنة الطباعة والإخراج، وذات ورق مصقول وحجم كبير، وقد تنوعت أبوابها، الثقافية والعلمية واستقطبت خيرة الأقلام المتخصصة.

نجد في العدد الثاني عشر، السنة الأولى الصادر في 1/12/1953 مقالا تحت عنوان (تصورات الشيوخ) بقلم محمد كرد علي (1876-1953) وقد نشر المقال بمناسبة وفاة كاتبه، وقد كتب جانب العنوان للمرحوم العلامة محمد كرد علي رئيس المجمع العربي بدمشق، وضمن مستطيل أسود جاء ما يلي: (فجع العالم العربي في الشهر الماضي بوفاة العلامة المرحوم محمد كرد علي رئيس المجمع العلمي العربي، وفقد الأدب العربي بفقده رجله الفاضل وعالمه الكامل، وقد كان المرحوم أعد مقالا لهذه المجلة قبل أن يوافيه الأجل بأربعة أيام وكان هذا المقال آخر ما كتب فقيدنا الكبير، رحمه الله رحمة واسعة وأجزل ثوابه.

ومما جاء في مقاله الأخير (تصورات الشيوخ) ما يلي:

(تتبدل نفسية من طعن في السن  العالية، وتحول بعض أفكاره وتصوراته، ويبدأ باستقراء ما مضى له من حياته من مواقف، وما جرى له من أحداث ومشاكل يقلبها ويكررها ويطرب عليها أو ينقبض منها، ولا يعد ما أتاه في غابر أيامه إلا شهورا لا يجوز لنفسه إتيان مثله، بعد أن حمل عبء الأيام، وبيضت وقائع الدهر لمته.

من طبع الشيوخ أن يذكروا من كانت لهم بهم صلات من أصدقائهم وعشائرهم وربما عطفوا على من عاشوا معهم من أترابهم، وألفتهم نفوسهم في شبابهم، أكثر من عطفهم على كثير من الخلق، وفي العادة أن يتفاهم الشيوخ وثيق الواحد بأخيه، على ما يثق المرء بابن أمه وأبيه.

مما يؤلم الشيوخ قلة الأمانة والكذب الصراح، ويسارعون بالاعتراض على من يوهمونهم من الحائرين عن الصراط المستقيم، ما ساعدتهم صحتهم، عن معاودة أعمال ما كانوا يؤثرونها فيما مضى لتوقف إتمامها على صرف وقت طويل، هذا وهم يوقنون أنهم لا يعيشون أكثر مما عاشوا ، ولا ينتظرون أن يجنوا ثمرة ما يغرسون، ويشيرون إلى أنه كان من الواجب على أهل الجيل الجديد أن يهتموا بمثل هذه الشؤون دونهم.

تقل رغبة الشيوخ في التعرف إلى أناس عرفوا أمثالهم في سالف أيامهم، ولا يرغبون على الأغلب في الاستكثار من المعارف والأصحاب ويعزفون عن زيارة ما لم يزوروا من المعالم والمصانع، ولا يحبون أن يطأوا أرضا سبق لهم أن وطئوها، وقلما تتعلق هممهم بتعلم ما لم يتعلموا، والإطلاع على ما فاتهم من الإطلاع عليه، ولا يلقون أبصارهم على ما سبق لهم أن عرفوه، ومن الشيوخ من يسيرون على عكس هذه الطريقة فيسارعون إلى مشاهدة ما لم يشهدوا من المعالم والغرائب، وما قصروا في التمتع به من اللذائذ كأنهم يودعون مباهج الحياة الدنيا.

يميل الشيوخ في أحاديثهم إلى إلقاء شيء من تجاربهم، أو ما جرى لهم من أحداث، حتى يظن بعض من يستمعون إليهم أنهم يتبجحون، يبدون ويعيدون وهم لا يقصدون في الغالب بما يرددون إلا نشر ما تعبوا في الوصول إلى معرفته، ويظنون أنه من الأحاديث التي يستظرفها من يسمعها، متوهمين أن غيرهم يلذه ما يلذهم، ربما بادروا إلى الاعتراض على من يدخلون في شؤون لا يحسنونها، ويخيل إليهم أن السعادة في سلوك الطريق التي سلكوها، من عادة الشيوخ لزوم الصمت إذا اجتمعوا إلى من لا يعرفون، ولاسيما أمام من يتأففون من القديم ويحاولون سفها وبغيا   أن يقضوا عليه، وقد تضيق حوصلة الشيخ بسماع ما يخالف مألوفة وإن كان من مصطلح أهل حيه، والمداراة على الأغلب تصعب على الطاعنين في السن أكثر مما تصعب على الكهول، وإذا تجاوز الشيوخ وارتكبوا جريرة الظهور بغير ما تكنه أفئدتهم يبدو التكلف في نبراتهم وحركاتهم، وكما يأنف الشيوخ التملق أحيانا يشق على أكثرهم بذل النصح لمن لا يقبله، وقد يكون الصواب فيما ينصحوا له أكثر من الخطأ، والصواب ابن الأيام والليالي، وربيب المحن والكوارث، ولما ينصحون به أشباه ونظائر وقعت لهم أو لغيرهم فاعتبروا بها، وحاولوا أن يحملوها إلى من عساه أن ينتفع بها، هذا وهم على يقين أن النصح لا يتأثر في طبقة المغامرين، لأن المغامرة شعبة من الجنون متأصلة في الشباب، والحساب والتقدير من شأن المتعاقلين المتزنين، وهؤلاء يكثر سوادهم في رعيل من شابوا وشاخوا، وربما كان في الشيوخ من لا يقدرون مدى الهوة العظيمة بين الماضي والحاضر، ويتناسون أن الأخلاق والعادات يطرأ عليها التبدل في كل خمسين سنة، وإن ما يستحليه أبناؤهم وأحفادهم هو في نظرهم مر المذاق، ومن عادة الأيام بأبنائها أن يكون الممثلون أمس غير الممثلين اليوم وهناك التفاوت في تصور الأشياء والأحكام المتباينة عليها.

كثيرا ما يشعر الشيخ إذا اجتمع إلى من هم دونه في العمر، وهم يرسلون أنفسهم على طبيعتها، إنهم يتكلمون بلغة لا يفهمها، وإذا كشفوا عن سرائرهم يدرك أن ما يعتقد أن الحقيقة بعينها هو عن سرائرهم يدرك أن ما يعتقد أنه الحقيقة بعينها هو عند جلسائه خطأ إلا أقله، وقد يوافقونه على رأيه وهم يضمرون إنكاره، ويظهرون تأدبا أنهم من رأيه وهو يجارونه على ما يقول لئلا يكسروا قلبه، ومن عيوب الشيوخ الإكثار من النصح لمن يطلبونه ولمن لا يطلبونه فلا يلبث الإغماد أن يرموهم بالتعرض لما لم يدعوا إلى إعطاء الرأي فيه.

والشيوخ على أي حال يلذهم فرض آرائهم على غيرهم ولا يهون عليهم أن يفرض أحد عليهم إرادته، وذلك لتوهمهم إنهم  في غير حاجة إلى نصائح يعدونها من البديهيات المسلم بها، ويحسبون نصحهم غيرهم من الواجبات، وعلى الجملة فمن الصعب على الشيوخ أن يسايروا عادات قومهم بأجمعها، ويروقهم التفلت من قيود المجتمع، ويشمئزون فمن يحاول تقييدهم وحجر حريتهم، ولا يحبون أن يتقيدوا بخاطر أحد، ولا أن يرتبطوا بموعد ولا بإعطاء قول.

ومن طال عمره عرف من عيوب معاصريه مالا يعرفه الجدد في الحياة، أعجبتني كلمة لأحد أصفيائي بدرت منه عندما سمع شهادة رجل لآخر بحسن حاله ووصفه له بأنه من الأحرار الأخيار، قال لما سمع ما سمع وهو يضحك: كان عليك يا صاح أن تتريث في حكمك على من تشهد له بهذه الصفات حتى يموت فلان فإنه هو الذي عنده علم حاله وماضيه، وعلى هذه الوثيقة المحفوظة عند الشيخ يصح إصدار حكم سليم على ممدوحك.

وإذا كان من شيمة الشيوخ التشاؤم أكثر من التفاؤل، للضعف الطارئ على بعض حواسهم، كان اليأس أقرب إلى قلوبهم: والنظر إلى الدنيا من وجهها الأسود أظهر فيهم من رؤيتهم لها من الوجه الأبيض، إلا من غلب عليهم شيء من شجاعة النفس من صغرهم، منهم يتكلفون الابتسام للمستقبل وإن اعتقدوا أن ليس فيه ما يبعث على الرضا، لذلك وجب أن يخص الشيوخ بمقام المستشار في الأمور العامة، والمستشار قد يستفاد من آرائه وإن كان ما يرتئيه مما لا يمكن تنفيذه بحذافيره.

 

الأستاذ محمد كرد علي

الرحمة والشفقة أعلق بقلوب الشيوخ، على ما لم يعرف لهم في الربع الثاني والثالث من مراحل العمر، ولذلك يندر أن يفلح منهم في معالجة الأعمال التي تقتضي قسوة وصلابة، وهم الذين تأخذهم الرأفة حالا، ولا يرتجى نفع ممن يؤثر العافية في أمور تعد الشفقة فيها جناية، وحرص الشيوخ على الأكثر الحرص المعتدل، ولا يصدق على جمرتهم ما قاله الأولون من أن المرء يشيب وتشيب معه خصلتان الحرص وطول الأمل.

يخف حب الفضول فيمن حطمته السن العالية، ويتعمد الاقتصاد من حركاته، ويتبخر التعصب الديني في رأسه، وقد ينظر إلى أرباب الأهواء والأديان المخالفة له نظر رحمة  وتسامح ومعذرة، كدأب الداعين في عهدنا إلى السلام يحاولون أن تسود دعوتهم في العالم أجمع.

يدعي بعضهم أن الشيوخ يتخلفون في مضامير العلم والأدب، وهذا يخالف الواقع من وجوه، فقد شهدنا فولتير يكتب رواية (كنديد) التي أعجبت بها الأمم وهو في الخامسة والستين، ورأينا كيتي شاعر الألمان يؤلف وهو في الثانية والثمانين قصة (فوست) ويبلغ في إجادتها إلى ما ليس بعده غاية، وعهدنا سفقلس  اليوناني يكتب في  التسعين قصة (أديب) وأمثالهم غير قلائل في حملة العلم والقلم في الغرب ، وأخرهم برنارد شو الكاتب الإنكليزي، ظل يكتب ويؤلف ويجيد حتى السادسة والتسعين، وكذلك كان شأن الجاحظ في العرب فإنه ألف أهم كتبه بين السبعين والخامسة والتسعين وهو مصاب بالفلج مقعد.

ومسألة المسائل في الشيوخ أن يخيل إليهم أنهم لم تعرف لهم أقدارهم، ويتناسى قومهم حسناتهم، وكثيرا ما يصمهم بالخرف بعض من لا يوافقونهم على آرائهم ومراميهم.