في معيار الشعر الصافي

معين العماطوري

يعتبر الشعر ديوان العرب والرؤية الثاقبة، ومن خلاله يستطيع الشاعر نقل أحاسيسه دون مواربة وفق معيار نقي صافي حدده الشعراء كل من زاويته.

الشاعر "جودي العربيد" نقل في معيار الشعر الصافي  رؤيته النقدية وحصيلة دراساته وبحوثه الأدبية في الشعر، فوضع مشاهدات واقتباسات شعرية لشعراء بين القديم والحديث.  

المفكرة الثقافية التقت الشاعر والأديب "جودي العربيد" عضو اتحاد الكتاب العرب، وكان الحوار التالي:

*ما الغرض من دراستك لمعيار الشعر الصافي؟

**ليس الغرضُ من هذه الدراسة الحديثُ عن ظاهرةٍ تاريخية، بقدرِ الرغبةِ في تبيانِ السماتِ الشعريةِ من العرَضي فيه، والسّعي لتلمّسِ معيارٍ للشعر الصافي.

تلونَ الشعرُ كثيراً خلالَ عصوره الطويلةِ، وخالطَه العديدُ من الشوائبِ وكان لذلك مظاهرُ لا تُحصى في محاولات الكتابةِ الشعرية، فثمةَ الغثُّ إلى جانبِ الباهر الجوهري الأصيل، وتعدّدتْ فئاتُ أصحابه من حيث الماهوية، فنرى مثلا شاعرا يمارسُ موتاً نسبياً أو جزئياً في كتابة القصيدة، وشاعرا يتلهّى بكتابة الشعر، وآخر يؤكّدُ ذاته من موقع الطّموحِ لا العبقرية .

*إذاً كيف يمكن أن نميّز الشعرَ الصّافي من غيره ؟

**إنّ الحساسية، والرّهفَ اللطيفَ الإنسانيّ الجواني، كما كان يسمّيه أسلافنا، والذي يأتي بكليةٍ واحدةٍ، ويمور في مورفيمات القصيدة وذراتها، هو ما يعطي العملَ الشعري قيمته، أما ما يتبع ذلك من زخرفٍ، وتلويناتٍ فقد تكون أو لا تكون، جميل أن تأتي عفوَ الخاطر ولكن إن خرجت القصيدة من منطلق الشغل، والصنعة فسرعانَ ما يكتشف القارئ الحصيف ذلك، فالجوهري يظهر ساطعاً دون حاجة إلى تعليل أو شروح، إن المعاناة والهيف سبيلان أساسان إلى عوالمِ السرانية والرعشات القبلية، ولن تطمئن النفس لشعرٍ مزورٍ مهما حاول صاحبه أن يملأه بأشكال الصنعةِ، وأسرار الفن والبلاغة، وأنساقِ البديع، فحين نمعن النظر في هذا البيت المعروف مثلاً:

    بكت لؤلؤاً رطباً ففاضت مدامعي       عقيقاً، فصار الكل في نحرها عقدا

  نقرأ بيتا مثقلا بالصور، والألوان، والموسيقا، والبديع، وعلى ذلك فهو ليس من الشعر في شيء، ويرجع هذا إلى عدم خفوقه في أجواءَ من الاحتراق والجوى، من الهيف والدنف والتوتر التي تحملنا على أجنحة خيال خفاقٍ، ومشاعر من الاحتراق، وحرارة من التدفق ونبض الروح، بينما تقراُ بيتاً آخر يقول:

        تأخّرتُ أستبقي الحياةَ فلم أجدْ     لنفسي حياةً مثلَ أن أتقدّما

والشاعرُ هنا مبتل بلهبِ المعاناة وأمطار الشعر، والتجربة.

*هل يقتصر الشعر الصافي على الهموم الخاصة برأيك؟

**لا يقتصرُ الشعرُ الصافي على مناشدة الهموم الخاصةَ، بل تنداحُ لتشملَ الأمورَ التي يعانيها الشاعرُ في الهمِّ العام، أو أبعد منه إلى القضايا الإنسانيةِ. إنّ الفنانَ الشاعرَ إنسانٌ موصوبٌ بمعنى من المعاني، وحين نشير بالأصبع من آثارٍ سواءٌ أكان نحتاً، أم تشكيلاً أم شعراً نستشف مدى معاناته مما ألم به من نصب. "فالدرويشُ" لخّصَ حالاً شعريّةً فيها الغمامُ والدّمعُ، والفقدُ في مقطعٍ امتازَ بالتكثيفِ دون اللجوءِ إلى زياداتٍ ومحسّنات تثقلُ أكثرَ ممّا تُوصل، ويُذكرُ عن "جريرٍ" أنه قبل ولادةِ قصيدته كان أهلُه يظنّونه قد جُنَّ أو أصيب بمسٍّ من جنونٍ، فلا يستقرُّ على حالٍ إلا بعد أن يتحلّلَ مما ألمَّ به من طارئ شعريٍّ، وحتّى قراءةُ الشاعرِ لشعره هي نوعٌ من النزيف الرّوحيِّ، يُتعبُ الشاعرَ ويُريحُه في آن واحد بحسب "نزار قباني" والشاعرُ الأصيلُ يستمدُّ مِدادَ حروفه من عُصارةِ روحه ووجدانه، هو لا يفكّرُ، ولا ينشغلُ بأمرٍ سواه، يسفحُ أعصابه على الورق وإذا سُئلَ كيف كتبَ أو يكتبُ الشعرَ حينها قد تضعه في منطقة الحَرج يبدأ يتلكّأُ، ويصفُ، ويمثلُ دون أن يصل إلى جوابٍ قاطع مانعٍ في تعريف كيفيةِ ولادة القصيدة أو تعريف الشعر، وما أكثرَ مَنْ عرّفه دون الوصولِ إلى توصيفٍ له، أو إجماعٍ منذ القديمِ حتى الآن، فلا تفسيرَ لكيمياء الشعر. يعرف الشعر الناقد "يوسف سامي اليوسف" في كتابه عن الشعر العظيم "إن الشعر لغةٌ حسّاسةٌ متعالية تُنتجها غريزةُ الكمال التي لا وظيفة لها سوى الصعودِ بالإنسان إلى الساميات"، وأظنُّ أنّ هذا وصفٌ للشعر وليس تعريفاً له.

*هل يستطيع الشاعر أن يتحلل من المادة ليدخل مصاف الصفاء في الشعر؟

**إنَّ الشاعرَ الذي يتحللُ من المادةِ، ويعيشُ تجربةَ الشعرِ الصافي يضعُ يدَه على جوهره في كلِّ مظهرٍ من مظاهرِ الكونِ، فينبعثُ في معمله عصيراً، ليتقطّرَ صفاءً مطلقاً، فيصبحُ إحساسُه موسيقى، وحروفُه ألواناً، وصوراً، وعباراتُه غناءً، وتتبادلُ حواسُّه المهامَّ لتفيضَ بالألوانِ، والأضواءِ، والأشذاءِ، ويكون الإبداعُ، ولا بدَّ للشاعرِ الذي يقصدُ الصفاءَ من الشعرِ من أن يعرفَ نفسه تمامَ المعرفةِ أولاً. معرفة النفسِ أساس مكين ليتجاوَز أوشابَ الحياةِ وسفسافها، وقشورَ الشعرِ، ويركز على الجوهر فيه، وأرى أن تكونَ الكثافةُ الشعريةُ أساساً في رؤاه وانفعالاته، وآلياته، حيث يمتزجُ الشكلُ بالمضمون، ويكون المضمونُ هدفاً للشكل أيضاً فيتعانقان في كلٍّ واحدٍ ليأتي الماء زلالاً، إنّ الشعرَ الصافي لا يُحجلُ، ويأبى الأثواب الضيقة والشروط، وذائقةُ المرءِ السويّةُ هي معيارٌ لحُكْمه على الجوهر فيه.

*هل يجب أن يتحدث الشعر الصافي عن الوجدان والذات؟

**صحيحٌ أنّ الشعرَ الصافي يتبدّى واضحاً إذ ينبعُ من النفسِ والوجدان متحدّثاً عن همومِ الذاتِ غزَلاً، أو رثاءً أو غير ذلك إنما كثيراً ما نجدُه هنا أو هناك وبخاصّةٍ إذا جاء بريشة مبدعٍ ذي موهبةٍ عركته الحياةُ ولاقى فيها الأمرين، كما لمسنا ذلك لدى العديد من الشعراء كالسياب مثلاً ويؤكّدُ علماءُ النفسِ أنّ لحظاتِ الإبداع قصيرةٌ، فهي لا تُبرقُ إلا لتختفي بأسرعَ من خفوقها، ولذلك كان على صاحبها أن يسارعَ لاغتنامِ الفرصةِ بالطريقة التي تتناسبُ وأدواتِه ووجدانَه، ويُدخلها لآباره لتخرجَ بعدها ماءً زلالاً، وفي قصيدة السياب الآنفة الذكر نرى التوهّجَ يخفتُ أحياناً ليبدأ بالصعودِ في آناتٍ أخرى، ولكن يبقى الخطُّ البيانيُّ لشعريتها عالياً على الرغم من اختلاف التوهّجِ بين الفينة والأخرى. إنَّ نظريةُ التخطّي، والتجاوزِ عبْرَ المذاهبِ الأدبيةِ من كلاسية إلى غيرها حتى قصيدة النثر، وإلى الكتابةِ العابرةِ للأنواعِ ستبقى في تسارعٍ دائمٍ، دون أن يستقرَّ فنُّ الكَلِمِ، ولن يستقرّ على شكلٍ واحدٍ، إنَّ الإنسانَ هذا الكائنَ المحيّرَ في عمارته الخاصةِ، وجبلّته، في المحيطِ الأكبرِ لن يطمئنَّ إلى لونٍ ثابتٍ يقينيٍّ في الفنِّ، وبخاصّةٍ بعد إنجازه النظريةَ النسبيةَ التي خلعتْ أبوابَ القناعاتِ والنهايات "وسوّغت لآفاقٍ أرحبَ" بحسب "يوسف سامي اليوسف"، فلا حدودَ لإنجازاتِه وابتكاراته، وكلُّ مثالٍ يمكنُ تجاوزُه، وتبقى حدودُه نسبيةً، من منظار هذا الكونِ الصامت المخيفِ، المليءِ بالأسرارِ، بدءاً من عالم الإنسانِ الفردِ الداخليِّ إلى الطبيعةِ، والميتافيزيقا، وانتهاءً بالكون، فالشعرُ يبقى "إشكالاً واختلافاً مطلقاً "بحسبِ دانييل لوير" وصدقَ قولُ الصوفيةِ :"على قدْرِك الصهباءُ تعطيك نشوةً".