"سلامة الأغواني "...من سائق التاكسي لرائد المونولوج

سمر وعر-دمشق

كان  "سلامة الأغواني" واحداً من جيل الرواد في فن المونولوج في الثلاثينيات، فشكل بموهبته وعمق أفكاره ترجمة جمالية نافذة لهذا الفن، ودفع مساحة من عمره ثمناً لمواقفه. كان لعمله كسائق سيارة أجرة دوراً في فتح خطوط طويلة قربته أكثر من الواقع.

ولد عام 1907 في حي القيمرية بدمشق، والده "أحمد المصري" كان  يعمل في الجامع الأموي ومهمته إشعال القناديل ليلاً، اهتم منذ صغره بقراءة الكتب التي تزخر بها مكتبة والده، والتي تشمل كتب الفقه الاسلامي والأدب والطب العربي القديم وسير عظماء التاريخ، أما دراسته فتلقاها أولاً في كتّاب الشيخ "عيد السفرجلاني " ثم في مكتب عنبر، تلك الثقافة الواسعة التي حصل عليها من مطالعته لمكتبة أبيه ومن الدراسة أوقدت عنده موهبة كتابة الزجل،  فكان يتلاعب بالألفاظ المتداولة في المنزل ليصوغها في قالب زجلي مرح، ومن أوائل كتاباته الزجلية زجلية ينتقد فيها التفكك بين أفراد حارته  قال فيها:

 

مصيبة كبيرة مصيبتنا

                        كيف منلتذ بعيشتنا

لافي محبة ولافي رحمة

ولافي قوة بتربطنا

   

كان "سلامة الأغواني" دون العاشرة من عمره عندما استفاقت أحاسيسه الوطنية على الاستعمار التركي الذي جثم على صدر الوطن، وروّعته المشانق التي نصبها الأتراك في دمشق وعلقوا عليها المناضلين وفي ذلك قال :

 الخلاصة كنت صغير تقريباً عمري عشر سنين

أوصل لسوق الحميدية--- لاقي الناس مسكرين

أتصبح بتلات مشانق--- يشـــــــهد رب العالمين.


وفي السادسة عشرة من عمره كانت كتابة الزجل قد نضجت لديه  فانبرى لكتابة الأزجال المعادية للمستعمر الجديد "الفرنسي"، وأصدر مجلة أسماها "الكرباج" لنشر أزجاله فيها، لكنها توقفت  عن الصدور بعد سبعين عدداً بضغط من سلطات الاستعمار الفرنسي، بعد ذلك بحث عن وسيلة جديدة لنشر أزجاله وكان قد تعلم العزف على العود على يد الموسيقي "عزت الحلواني "، والموسيقي "صبحي سعيد "، ووجد في صياغة  المونولوج أسلوبا مناسباً لإطلاق أزجاله الوطنية الاجتماعية، وتعاون في هذا المجال مع "صبحي سعيد" الذي لحن له معظم مونولوجاته خلال مسيرته الفنية،  وأول مونولوجين قدمهما "اسمعوا ياأهلية"، و"نحنا الشوفيرية" وصدرا في اسطوانة واحدة ، وكان له مساهماته في الدفاع عن الوطن ضد الإحتلال الفرنسي، حيث شارك الشعب نضاله ضد الاحتلال الفرنسي من خلال مونولوجاته التي هاجم فيها المستعمر وطالبه بالرحيل عن سورية ، وأول مونولوج كتبه وغناه ضد المستعمر الفرنسي ولحنه" صبحي سعيد" كان مونولوج "البيت بيتنا والأرض لأبونا وبأي عين جايين تنهبونا"، ثم تتالت مونولوجاته المعادية للفرنسيين  فكان منها "شوجايي تعمل ياجراد"و"هونها يامهون"،وغيرها، وقد أغضبت هذه المونولوجات سلطات الإستعمار الفرنسي ، فأصدر المفوض السامي الفرنسي قراراً بنفي الأغواني إلى أفغانستان، وبعد تسعة أشهر توسط له رئيس الجمهورية آنذاك "محمد علي العابد" لدى المفوض السامي الفرنسي  ليعود إلى بلده  بعد أن أخذ منه الفرنسيون تعهداً بعدم مهاجمتهم وكان ذلك عام 1932، لكنه لم يستطع الالتزام بتعهده، وهو يرى معاناة بلده في ظل الاحتلال الغاشم، فعاد إلى تقديم مونولوجاته المناهضة للمستعمر ومنها  "أنا قلبي دايب"، و"كنا صغار وصرنا وكبا"، و"لعند هون وبس"، وقد أزعج المونولوج الأخير السلطات الفرنسية كثيراً  فأصدر المفوض السامي الفرنسي "دي مارتيل " قراراً بمنع تداول الأسطوانة التي تحمل المونولوج، ومن جراء هذه المونولوجات أدخل السجن مرات عديدة وناله فيها الضرب والتعذيب، كما شارك الشعب أفراحه بالجلاء من خلال مونولوج "اليوم العيد وبكره العيد"، وعندما قامت الوحدة بين سورية ومصر عام 1958 قدم عدة مونولوجات ترحب بالوحدة منها "ذكرى الوحدة"، وعندما قامت ثورة الثامن من آذار 1963 قدم عدة مونولوجات منها "الثورة خلقت حرية"، و"نحنا مافي عنا عبيد".

تناول"الأغواني" في مونولوجاته الكثيرمن القضايا الاجتماعية التي انتقد فيها العادات الاجتماعية السيئة مثل الاحتكار وغلاء الأسعار، وغلاءالمهور والكذب، والمماطلة والتسويف وغيرها ، لكنه لم يستمر بالغناء، وبعد اعتزاله  الفن  لازم الاستديو الإذاعي الصغير الخاص به الذي أسسه عام 1970، وكان ينصرف فيه إلى تنقية أعماله الفنية الأولى.

أما عن تكريمه،  فقد كرمته الدولة بمنحه وساماَ رفيعا زمن الوحدة مع مصر، وانتخب نائباَ في مجلس الشعب ممثلاَ عن الفنانين، كما كرمته الدولة بتعيينه بوظيفة في وزارة الأشغال العامة "المواصلات"خبيرا في شؤون السيارات كون  أن مهنته الأساسية سائق سيارة .

توفي" سلامة الأغواني" في السادس من آب عام 1982 عن عمر يناهز الواحدة والسبعين، دون أن يترك لورثته ثروة ما، إلا أنه ترك لهم  الأمجاد التي خلدها بمونولوجاته الشعبية التي تنضح بالوطنية والنقد الاجتماعي، وبرحيله خسرت سورية واحداً من أعلامها في المونولوج التراثي الجميل .

الباحث والأديب " نصر الدين البحرة قال عنه: « لعب الأغواني دوراً كبيراً بتاريخ الغناء الشعبي تمثل بمرحلتين الأولى مرحلة الثلاثينيات حيث كان زجله مكرسا لمقاومة الإحتلال  الفرنسي، حتى أن المستعمرين الفرنسيين طاردوه ومنعوا أهازيجه الغنائية التي كانت تسجل على أسطوانات، ومرحلة الأربعينات التي اتخذت شكلاَ خاصاً بفترة الحرب مع العدو الصهيوني، واذكر أنه تحدث عن غارة صهيونية شنت على دمشق أواخر 1947 فأزعج حكام هذا الكيان حتى انهم شنوا غارة أخرى بكل وضوح ردا على ما قاله، وظلت له هذه المكانة المتميزة بعد ذلك وتمثلت في الأزجال الإنتقادية الإجتماعية التي كان يقدمها في إذاعة دمشق وفي الحفلات العامة » .
الباحث الموسيقي" أحمد بوبس" الذي كان قد ألف كتاباَ عن حياة "سلامة الأغواني" قال:

«رغم السنوات الكثيرة على رحيله فلايزال "الأغواني" ماثلاً في أذهاننا بمونولوجاته البديعة، وهو بحق رائد المونولوج الناقد، ويمثل مرحلة فنية قائمة بذاتها في المونولوج السياسي والاجتماعي  بدأت مع منتصف عقد العشرينات من القرن العشرين ».


المراجع:

الموسيقا في سورية "صميم الشريف".

سلامة الأغواني رائد المونولوج الناقد "أحمد بوبس "