"سارة شمّة" : نفتقر إلى ثقافة المتاحف والتسويق الثقافي

علاء الجمّال

"سارة شمّة" فنانة تشكيلية سورية، ولدت في دمشق عام 1975، هوت منذ البداية الرسم الواقعي وما فوف الواقعي، اتخذت الإنسان وطبيعة جسده المتغيرة حالات نموذجية للرسم، تتأملها بوعي وتفكير، ثم تترجمها بإدراكها المعرفي والحسّي إلى تصورات واقعية متخيلة، دقيقة التشريح ومستندة إلى الواقع أحياناً..هذا الاتزان أهلها للفوز بجوائز عالمية، منها الجائزة الرابعة في مسابقة "البورتريه" في الصالة الوطنية للبورتريه، "لندن ـ بريطانيا" عام 2004، والجائزة الأولى في معرض "واتر هاوس" بمدينة "أودليد ـ استراليا" عام 2008.

تخرجت "شمّة" في كلية الفنون الجميلة "بدمشق" عام 1998، مثلت"سورية" في معرض المرأة والفنون تحت عنوان "رؤى عالمية" في"expo"، "الشارقة ـ الإمارات العربية المتحدة"،  لها عدد من المعارض الشخصية، ومشاركات مختلفة في معارض مشتركة في العالم العربي والأجنبي.

 

للدخول في كينونتها المحتجبة بالعفوية والبساطة زرنا الفنانة التشكيلية وكان الحوار التالي:

ــ يتميز أسلوبك الواقعي بدقة متناهية في الرسم، وأحياناً أقرب إلى "الفوتوغراف"، هل لك أن توجزي المراحل التي عملت بها على تنمية وصقل هذه المقدرة؟

بدأت الرسم الواقعي منذ الطفولة وبتشجيع كبير من محيطي، وبعد سنوات قليلة اعتبرت نفسي أني ملكت شيئاً من التكنيك الصحيح والمهارة التي لا تقف عند حدود معينة، من هنا نسخت العديد من اللوحات العالمية لفنانين عالميين أضاف فنهم إلى عملي البراعة والاكتشاف، وذلك بعد أن اطلعت على تاريخهم وحياتهم الفنية، وتعلمت منها كيف يشكلون اللوحة ويخرجوها بهذا الإتقان، فدرست التقنية التي استخدموها وعملت بنفس الطريقة، حتى اكتسبت خبرة أكبر زادت في مقدرتي الإبداعية إلى جانب مراحل الدراسة  التي أفادتني وعلمتني  الكثير.

أما تأثري فكان "بسلفادور دالي"، أحببت رؤيته التشكيلية وفكره السريالي, بعد ذلك أثارتني  أعمال"بيكاسو" وأحدثت في داخلي بعض التغيير، خصوصاً "المرحلة الزرقاء"، وهي إحدى المراحل التي مرّ بها, تأثرت أيضاً في طفولتي بالفنان الفرنسي "جورج دولاتو" بعصر النهضة، ونسخت له العديد من الأعمال الفنية، ونسخت فيما بعد للانطباعيين مثل الرسام الفرنسي "بول سيزان" ورينوار ورامب رانت".

 

الصمت سكون يولد الاسترخاء الإبداع

ــ الصمت مصدر إيحائي وإلهامي، كيف ينعكس على أعمالك التشكيلية؟

الصمت: هو حالة سكون واسترخاء تحدثان موسيقى حسيّة في النفس، ترتقي بالحالة الشعورية لدى الفنان إلى الصفوة الروحية التي تمنح لوحته أبعاد جمالية أكثر تأثيراً على ذاكرة المتأمل.. هذه الحالة تنعكس على لوحتي بشكل حسّي عميق فأعيش حالة "الإبداع الوجودي" وأنقلها إلى الأخر بصدق، فأمزج الواقع بالخيال حتى يصبح الخيال لدي واقعاً يتسع لآلاف الصور والرؤى التأملية، أدرسها و وأحللها بتأني لتتدفق أخيراً إلى لوحتي مشاهد تصورية أظهرها بتلقائية اللون وعفويته.

ــ نلت مؤخراً الجائزة الأولى في معرض "واتر هاوس" بمدينة "أودليد باستراليا"، المستمر من 2 أب حتى 7 أيلول، ماذا عنها؟

من فترة طويلة أجمع صور حيوان "وحيد القرن" أحب أن أرى جلده وأتلمس مساماته،  حتى أننا إذا نظرنا إلى جلد إنسان عبر المكبر يبدو كأنه جلد "وحيد القرن". يتسم وجه هذا المخلوق بتعابير كثيرة، فعيونه مثلاً فيها فرح وحزن، وجوانب أخرى فيه جعلتني أتخذه ملهاً في لوحتي   ومن فترة 6 أشهر رسمت "بورتريه" لوجه "وحيد القرن" بشكل كلاسيكي ما بين الواقعية الدقيقة وعكس الواقعية، وكان قرنه مقطوع  فأتممته بخيط لوني أبيض، فأضاف إلى معانيه دلالة أخرى، والوجه حمل تفاصيل جزئية دقيقة بمناطق، ومناطق أحدثت فيها ضربات عرضية بالريشة.

عند انتهائي منها بشهر واحد أتت دعوة من أصدقاء لي متتبعين لمعارض  الفن التشكيلي في العالم، وحثوني على المشاركة  بمعرض "واتر هاوس" الجازة الفنية بالتاريخ الطبيعي بجنوب "استراليا" بمدينة "أودليد"، أثارني الموضع فأرسلت إلى المعرض صورة فوتوغرافية عن اللوحة لتشترك فقبلت، ومن ثم أرسلت اللوحة وربحت الجائزة الأولى "بالتصوير الزيتي".

 

ــ مااختصاصات المعرض؟

تقدم لمعرض "واتر هاوس" الذي بدأ في 2 أب ويستمر حتى 7 أيلول، حوالي 700 فنان وقبل 102 فنان، ضمن اختصاصاته "التصوير الزيتي والرسم على الورق والنحت" ولكل اختصاص ثلاثة جوائز، الجائزة الكبرى في "التصوير الزيتي" نالها  فنان من "استراليا"  والباقي من جنسيات مختلفة.

بعد انتهاء المعرض  ستعرض الأعمال الفائزة فقط  ثم سيتم نقلها إلى مقر "الأرشيف الوطني الاسترالي" في العاصمة "كانبيرا"، ويعتبر هذا التكريم والتقدير من أثمن وأهم الجوائز العالمية في استراليا.

 

الإنسان حالة معرفية تستحق البحث والاجتهاد

ــ تختارين الإنسان بكل حالاته التعبيرية مشروعاً بصرياً في لوحتك، ما السر خلف هذا الاختيار؟

الإنسان ملهم في عملي، فهو كون مصغر، نتعرف إليه ونفهمه كحالة معرفية مليئة بمواضع تعبيرية هامة تستحق البحث والاجتهاد،  فالجسم البشري يحوي الكثير من العروق والشرايين الصغيرة متغيرة الملامح مع مرور الوقت، وهو جملة أعضاء حيوية لها وظيفتها وخصوصيتها، وكل خصوصية لها حالة مختلفة، فتبدو جميعها متحدة كأنها اشتقاق من كوننا الفسيح إلى كون مصغر يختلف بعمله وتركيبه، وبدوري كرسّامة واقعية أتمسّك بهذه الحالات كيفما أراها وتتضح أمامي، أرسمها بكل تفاصيلها وأجزائها وهنا متعة العمل، والذي يساعدني أكثر أن جميع لوحاتي نابعة من الحب والوفاء والإخلاص لعملي.

 

ــ تعملين على رسم "البورتريه" وفق تشريح دقيق لأصغر جزيئاته، ماذا يعني لك هذا المنحى؟ وهل تستندين في رسمه على الواقع؟

"البورتريه" ليس وجه فقط، وإنما هو طبيعة تحمل معالم تعبيرية تخص ثقافتي ومشاعري،  والطبيعي أن أقف أمام "البورتريه" وأتساءل عن دلالة التعبير الموجودة عليه، أختزنها في ذاكرتي، وأرسمها في اللوحة أشخاصاً وبورتريهات متخيلة لا تستند إلى الواقع، وأحياناً أدمجها مع جزء من الواقع، كاختياري راقص صوفي يدور "ميلوي" مثلاً، أو أجلس أمام المرآة، وأرسم نفسي، والدلالات التي تتضح في اللوحة بعد إنهائها ليست مقصودة وإنما تظهر بشكل تلقائي وعفوي، تؤثر بي قبل المشاهد، لذلك يجب أن أدهش بها وأتساءل عنها، فالرسم ترجمة بصرية لكل المشاعر والرؤى المختزنة في الذاكرة، وإتقان التشريح في المعالم الجزئية الدقيقة في الشكل، يساعد على تبلور الصورة بالخيال وإخراجها بدقة في اللوحة.

ــ من أكثر فنانوا العالم خبرة بالتشريح الفني؟

هم كثر، ولعل أبرزهم الرسامين الأميريكان بأسلوب ما فوق الواقعية، حيث يرسمون الشكل بمعالم غاية في الدقة، أقرب إلى "التصوير الفوتوغرافي"، مثل:"فرانسيس بيكن، ولوسيان فرويِّد"، والواقعية إذا لم  يكن فيها تعبيرية متنوعة ومدلولات بصرية  تبدو للمتأمل مسطحاً لونياً لا غير، خاوياً من معاني التأثير والتأثر.   

 

المحرمات تقيّد الفنان بمجتمعه ومحيطه

ــ خلال زياراتك المتكررة إلى العالم الأجنبي، ما هي الظاهرة الأبرز في الفن التشكيلي أثارة اهتمامك وليست موجودة في سورية؟

حريّة التعبير بكافة مضامينها، هي الظاهرة الأبرز في العالم الغربي، وتنقصنا في "سورية"، لأننا في النهاية مجتمع شرقي تحكمه عادات وتقاليد، والطبيعي أن يكون هناك محرمات نتقيد بها ولا نخرج عنها فنحن مجتمعات عاطفية دافئة، وهذا شيء إيجابي من جانب ومن جانب آخر سلبي لأنه يقيد  الفنان التشكيلي بمجتمعه ومحيطه، فهنا فارق ثقافي ووعي ثقافي يختلف بين المجتمع الشرقي والغربي الذي يملك تاريخ بالفنون الجميلة يرجع إلى 700 عام تقريباً، وفي "سورية" تاريخ الفن لم يتجاوز 60 عاماً بعد، رغم ذلك نملك إمكانيات كبيرة وفنانين كثر تحتاج إلى ظهور ورعاية.

 

ــ نعاني في "سورية " من قلة الحضور نسبياً في المعارض الفردية التي تقام في الصالات العرض الخاصة، وهذا يعود بالإحباط على الفنان المغترب خارجاً ويعود ليقيم معرضاً شخصياً لأعماله ويلقى ذلك، ما السبب برأيك؟ 

نفتقر في "سورية" إلى معرفة طرق التسويق الثقافي، بدءً من أبسط الأشياء الملصقات الجدارية الدالة بالفنان الذي يود أن يقيم معرضاً ومعرفة بشخصه وأعماله، بالغرب مثلاً تجد مؤسسات ثقافية يختص عملها فقط بالتسوق لثقافة معينة "رسم موسيقى" وغيرها لكن مفهوم العمل ليس تجارياً بيع أو شراء.

 "لندن" مثلاً، نرى على جدران ممراتها ومنعطفات الطرق ملصقات ودعايات لأهم المتاحف هناك وأنشطته، إنهم يعرفون كيف يعملون ويعلنون حضور العمل الفني على كافة شرائح المجتمع، التي تزور متاحف المدينة المختصة بالفن التشكيلي من تلقاء نفسها وإن لم يكن هناك ملصق..هذا المهم بالتسويق الثقافي، المتحف يطبع كتب عن الفن الجميل وينشرها، يعرض أعمال عالمية، يظهر اسم فنان إلى المجد. ما ينقصنا في "سورية" قلة المؤسسات الثقافية التسويقية أهمها ثقافة المتاحف، الحس الجمالي الذي يسوق الفن العربي إلى العالم ويجعله منفتحاً بحضور وقوة كما هو في الغرب، وحصلت مبادرات مهمة في الواقع المحلي تميل إلى تلك الخطوات، مثل افتتاح متحف "دمّر" للفنون التشكيلية بعد إعادة ترميمه وبنائه، والآن يستوعب العديد من الأعمال الفنية للرواد سوريين أكثرهم على قيد الحياة، ويشغل الجزء الثاني من معرض إحياء الذاكرة التشكيلية الذي أقيم في صالة المتحف الحديث في المتحف الوطني "بدمشق". وهناك أمر آخر بالغ الأهمية يقع على الفنان في عملية إثبات الوجود وعليه فعله، وهو رسم شيء يؤثر عميقاً بعالمه المحيط،  وإذا لم يؤثر فهذا يضعف من إبداعه وحضوره.

 

تعبيرية حمل مضمونها معاني متعددة

حول أعمال الفنانة قال النحات السوري "مصطفى علي":«تعد "سارة شمّة" من الفنانات الشابات اللواتي شققن طريقهن بقوة في الوسط التشكيلي السوري وأثبتن حضوراً مهماً على المستوى العالمي، ونظراً لبراعتها في الرسم الواقعي، ودقتها الكبيرة في  التعبير والتشريح الفني، وتبنّيها الإنسان كموضوع معرفي وخيار أمثل في البحث والتحليل، أثبتت أعمالها التشكيلية حضوراً ملفتاً محلياً وعالمياً..هذا التميّز أكسبها جوائز مختلفة، ودفعها لتكون في المقدمة مع المبدعين الشباب في التشكيل السوري، والأهم في حاضرها الآن حصولها على الجائزة الأولى في معرض "واتر هاوس" باستراليا، وذلك تكريماً لها على لوحة قدمتها إليهم، وهي بورتريه لحيوان "وحيد القرن"، وجه غني بتفاصيل تعبيرية حملت في مضمونها معاني متعددة».