"رشق الغزال": مسيرة نصف ساعة من الشعر

  كمال شاهين

بدون عناوين تفصل النص عن المتن الشعري و بلا مقدمات ولا استئذان حتى، تختار "سوزان عليوان"أن تبدأ لحظتها الشعرية وتغرق مباشرة في شؤونها الصغيرة اليومية الطابع، الحادة الذاكرة والمتوسعة في فضاء النص دون إزعاج لا للنص ولا لبياضه المفرح، وبدون أن تضع علامات فارقة عند مفترق النص الشعري ومنعطفاته، تنساب مع الكلمة ـ المفردة وتتركها تحلق في فضاء البياض الكثير بأقصى ما يستطيعه ـ وما يعطيه البياض الشعري من اطمئنان تجاه المتلقي وتجاه الشعر نفسه.

 

لا تختار "سوزان" في ديوانها الشعري الأخير " رشق الغزال " أية " قضايا " من تلك القضايا ذات الضجيج لتتناولها شعرياً بقدر ما تختار حكايا يومية تبني عليها روايتها لأحداثها وتفاصيلها المغرقة في مسرح متعدد الصور آسر ، في مساحات صغيرة لهواجس أصغر أهم وأكثر خصوصية وبدون قضايا كبيرة إذا جاز لنا أن نصنف القضايا إلى كبيرة وصغيرة ، فيشغل الحب كل الديوان باعتزاز شعري يؤسس لذلك الترقب الواقف على حواف المشهد جزلاً مرتاحاً حتى إلى حزن شفيف خفيف "بهي الاستعارة"، ومعطياً في حركية تبادلية الصورة الأوضح للنص بأنه " متآمر لطيف" مع "غيابك الذي في غيابك صار صديقي" ، هذه الرحلات القصيرة تتبع تقنية "الرشق" تيمناً باسم الديوان الذي يحيل فيه الموصوف " الغزال " إلى غياب التجنيس فلا مذكر هنا ولا مؤنث، وإن كان يمكن التعويل على قراءة تبادلية ذكورية كما مؤنثة في كل بقاع الديوان، والأكثر تبياناً هنا تراجعاً أنثوياً "وكل مكان لا يؤنث لا يعول عليه" بتعبير "ابن عربي" .

 

لا يمكن أيضاً لقارئ الديوان أو قارئته أن يتوقف عنده لمرة واحدة بقدر ما يحتاج أو تحتاج إلى الغوص مراراً في التفاصيل التي تشكل الهاجس الرئيسي والمتن الشعري كله، فالتفاصيل الصغيرة هي لذة الحب القصوى ( قبلة على العتبة ، غمزة ، مرور على رصيف مر عليه الحبيب...الخ) ، وهذا الغوص لا يشكل إعاقة في تلقي النص بقدر ما يساهم في جلاء الصورة وتوضيح عناصرها وامتدادها باتجاه المتلقي ليشعر بالحب حوله، الإعاقة هنا في فضاء الحب وسريانته واقتصاره على الهامشي الجميل أيضاً .نحن أمام مشهد جميل مؤلم يعيدنا إلى لغة شعرية هادئة بين معنى ومبنى مترافقين بالسرعة وباقتناص اللحظة الوجودية دون تأكيد الهروب منها فهناك ارتجاج شعري يؤسس للغياب دون شرعنته أو تبرير حدوثه .

 

الديوان بمجمله يذهب في شكله ومبناه إلى النثر باقتدار تجاوزت فيه سوزان عليوان تشتتها السابق في أعمال أخرى، حيث أقامت في "رشق الغزال" مكاناً واسعاً مؤثثاً بالصورة في الدرجة الأولى على حساب الزمن الذي يمشي بخط مستقيم مع انقطاعات مؤقتة ضرورية للانتقال من بقعة إلى أخرى، إلا أن هذا التأثيث السري إلى حد كبير يغفل في الوقت ذاته الشخوص الواضحة ويتركها عائمة قرب النص لتبقى الشاعرة الناطق الرسمي باسم الحالة الشعرية وحدها ووحدها فقط.

 

تبدأ الشاعرة عملها الشعري معلنة انتظار الغائب، العاشق، الأب، أي آخر وتنتهي بالاقتراب كثيراً والاندماج فيصير العالم دمعة، وبينهما تبني هي عالمها مستبعدة منه كل الشر الممكن تصر على كونية صورتها فـ " لولا وجهك / العالم عقابي / خط الخيبة أطول من الرحلة"، وعلى هذه الابتهالية في الرغبة والعشق تسير قصائد العمل بتوسع تتشربك فيه الأمكنة كما الأزمنة في حضن الغائب الذي لا نتيقن أبداً ولو لثوان انه أدار رأسه باتجاه التي تبحث عن حضوره في غياباته عنها.

تنتمي "سوزان" إلى جيل الشعراء العرب الأحدث، أولئك اللذين لا يعتبرون القصيدة عقوبة للقارئ، على خلاف مدعي الحداثة الكثر، فهي تلجأ دائماً للبساطة اللغوية والاقتصاد في الكلام الشعري تاركةً للصورة أن تكمل في ذهن القارئ المشهد البصري المستكين إلى رغبات الأنثى في بهائها اللغوي الذاهب أبداً في مسارات الغنى بتقليل التدخل في مسار النص، هو نص ينتج نفسه بنفسه، حاملاً في طياته هسهسته الخاصة ونغمه ورنينه في التكرار على مساحات البياض إياها، لتكون هذه المساحات من جهة ثانية فسحة القارئ في هدوء البصيرة.

 

يذكر أخيراً أن الديوان صدر صيف العام 2011 طبعة خاصة، وهو العمل الشعري الأخير لها بعد سلسلة أعمال شعرية نذكر منها " ما يفوق الوصف " صيف 2010 و " شمس مؤقتة " كراكيب الكلام " وكل الطرق تؤدي إلى صلاح سلام " وغيرها.