رحلة الكتابة من "أور" إلى "أوغاريت"(3)

ذكريات لغوية مشتركة للغة واحدة

كمال شاهين

 

اللغة هدية السماء

في كتاب يجمع النظرة الإعجازية لظهور الحياة على الأرض بربطها بمصدر "فضائي"، وببعض الحقائق التي لم تفسر حتى اليوم على الأرض (مثل أحجار ستون هونج في بريطانيا)، يكتب الكاتب "زكريا ستيشن" كتاباً فريداً بعنوان "عالم إنكي المفقود"، فيقول إن الآلهة على كوكب الأرض قد جاءت من كوكب "نيبيرو"، وقدمت اللغة لبني البشر كهبة سماوية، وقد كانت لغة واحدةً، ولكن الآلهة نفسها وهي آباء (الأنوناكي) الواردة في الأساطير البابلية والسومرية، قد "بلبلت" الألسن البشرية كي لا يحدث بينها تقارب فتتحد وتحارب الآلهة نفسها وتنتزع منها السلطة حسب الكاتب.

هذا التفسير، يجد بقية من صحته في التفسيرات المقدمة لنشأة اللغة، أية لغة كانت، في اعتبار أن اللغة منجز "سماوي"، وهي بالتالي مقدسة كما في قول الله تعالى في سورة البقرة : (وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين ( 31 ) قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ( 32 ) قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون ( 33 )).

السماوي لدى البشر مقدس ومخيف وحالم عموماً، من هنا فإن أغلبية الدراسات الأثرية تقول بوجود لغة "سومرية" مقدسة كان ممنوعاً على العوام معرفتها واختص بها الكهنة فقط. ولا نعرف قبل السومرية لغة في منطقتنا المشرقية، وهي لغة تصويرية استخدمت فيها علامات تقترب من الهيروغليفية ولكنها أقل منها عدداً وأبسط، وتمثل هذه اللغة ذروةً في تطور بحث البشرية في منطقتنا لتسجيل تاريخها وحضارتها وحياتها الفكرية والدينية والثقافية والاجتماعية.

من اللغة السومرية حتى ذروة استخدام الأوغاريتية حقبة زمنية تصل إلى ثلاثة آلاف عام تقريباً، وهي حقبة ليست بالقليلة في عالم البشر (الذين يوم الخلق لديهم بألف سنة مما تعدون)، حدثت أثناءها تطورات لغوية كثيرة، نشأت لغات وانقرضت، ونشأت حضارات سادت ثم بادت، ولكن بقي في هذا المسار الحضاري الصاعد والمتنوع في منطقة المشرق ذلك الرابط الخفي الذي يعيد الجذور اللغوية كلها إلى نظام حياتي مجتمعي ترك ذكرياته في لغته القديمة ولهجاته المتعددة، وهي ما يعتبره بعض علماء اللغويات على أنه اللغة الأولى للبشرية.

ذكريات مبكرة في المشرق:

 من هذه الذكريات اللغوية اتجاه الكتابة، فكل هذه اللهجات تكتب من اليسار إلى اليمين، واليوم العربية تشذ عن هذه القاعدة فتكتب من اليمين إلى اليسار، لأنها جمعت بين تجربتين هما التجربة اليمنية، وخطها الأساس "المسند" الذي يكتب بنفس الاتجاه، والتجربة الشمالية المشرقية وقد أخذت عنها العربية الترتيب المحرفي الأبجدي (أبجد، هوز...)، وفي جمعها هذا تأكيد آخر على وحدة المنطقة الحضارية العربية لغةً وفكراً وحضارةً، فمثلاً بين اللغتين العربية والأوغاريتية، الاشتراك في الظواهر اللغوية على المستوى الصوتي، وفي الأصوات اللغوية بما فيها الروادف (ث، خ، ذ، ظ، غ) إلا الضاد فقد فقدته واستعاضت عنه بصوت هو الصاد (ص)، وفي التبدلات الصوتية من مماثلة ومخالفة وقلب مكاني وإدغام وغيرها.([1])

كتبت الأوغاريتية أحياناً من اليمين إلى اليسار في نصوص قليلة، وفي الغالب كتبت بالعكس، أحياناً أخرى من أعلى إلى أسفل (كالصينية)، ولا نعرف حقيقة سبب ذلك، إلا أن الاعتقاد السائد في تفسير ذلك مرده إلى ظروف الكتابة على الألواح الطينية ربما، أو إلى عدم استقرار نهائي لاتجاه الكتابة، على أن هذه النصوص قليلة عموماً والأكثر انتشاراً هي نصوص (يسار يمين) كما هو حال معظم لغات العالم اليوم.

ثاني هذه الذكريات التي توجد في كل لهجات المنطقة التوزيع النحوي للفعل إلى ماض وحاضر ومستقبل، وهو توزيع يمتد من الأكادية إلى البابلية فالأشورية حتى الآرامية والسريانية والعربية، وتختلف هذه اللهجات في نصب وجزم الفعل وفي علامات التنوين، ففي الأكادية والإيبلاوية مثلاً تنتهي بعض الكلمات بحرف ميم (ملك، ملكم) وتتشابه مع الأوغاريتية في ذلك، كذلك حال التنوين في اللهجتين (يجب التوسع هنا قليلا).

ثالث هذه الذكريات المهمة، أسلوب التنوين في الأوغاريتية والأكادية والآرامية والسريانية أيضاً، بعضها ينون بالفتح والضم مستخدماً حرف النون، بعضها ينون بالميم، وبين الميم والنون لغوياً مسافة ضئيلة تختصرها حتى اليوم لغتنا الدارجة في كل سورية، فقد (جيناكم، وجيناكن)، و(سلمنا عليكم، وعليكن) و(السلام عليكم وعليكن).

ما نقصده بهذه الذكريات ويوجد غيرها الكثير، أن الماضي المشترك لهذه اللهجات واضح، وأن التداخل بينها في المفردات والأسماء والحروف وطرق الكتابة والأساليب التعبيرية واضح أيضاً، من هنا فإن اعتبار كل منها لغة مفردة هي كمن يعتبر المصرية العامية اليوم لغةً مقابل الشامية أو اللبنانية أو العراقية، بعض الكلمات العراقية تستخدم حرف الجيم بدلاً من الكاف (كيفج = كيفك)، بالمثل الجيم المصرية المعطشة (جيم بثلاث نقاط كحديث صعايدة مصر) أو تلك المخففة (جيم قاهرية) لا يمكن اعتبارها لغة مستقلة، مثل اختلاف اللغتين الأميركية والإنكليزية مثلاً آخر.([2])

الكلمات المشتركة بين اللهجات المشرقية (ما بقي منها وما تمكن من تسجيله) يتجاوز الألف مفردة، وهذه نسبة ليست سهلة أبداً إذا ما عرفنا أن متوسط عدد الكلمات التي يستخدمها الإنسان من أية لغة لا يتجاوز الألفي كلمة على مدار حياته كلها، فمثلاً حتى اليوم يوجد بين آخر استخدام للأوغاريتية في القرن الثاني الميلادي بشكل رسمي، والحياة اليومية في مدينة "اللاذقية" ما يقرب من ألف كلمة من تلك اللغة في حديث أهل المدينة، نستنتج أن اللغة وإن مات استخدامها إلا أنها تستمر بشكل أو بآخر وبطرق مختلفة، ومنها الأوغاريتية والعربية والسريانية والآرامية، وإلى اليوم تأكيداً لكلامنا، نصف أسماء القرى في سورية كلها وليس فقط في ساحلها، تمتلك حضوراً في القواميس القديمة من سريانية وآشورية وعربية.([3])

هذه الذكريات المشتركة بين عائلة هذه اللغات توضح أنها تنتمي إلى أصل واحد، ولا تخضع للتقسيم اللغوي الذي قدمه علماء الغرب حين قسموا الشعوب بناء على التقسيم التوراتي إلى سامية وحامية (آرية)، وهو تقسيم لا ينتمي إلى الحقل المعرفي، بل ينتمي إلى الحقل الديني التوراتي الذي سقط كمرجع تاريخي منذ اكتشاف كثير من الأساطير في المشرق العربي بما في ذلك مصر مع وثائق تل العمارنة.

في التوجهات العلمية الجديدة في الغرب هناك من خرج عن هذا التقسيم الديني إلى قراءة المشهد الحضاري على حقيقته الواضحة هذه، أن هذه اللغات والشعوب كما هي اليوم تتكلم لغة واحدة بعيداً طبعاً عن النظريات القومية المؤدلجة فهي شعب ينتمي إلى جذر حضاري واحد، وأن المشترك بينها لغوياً كما حضارياً هو أكبر بكثير من مجرد تقاطعات في الفن والموسيقى والنحت واللغة ويرتقي إلى تشكيل وحدة حضارية.




[1]
"النون والميم"في اللغة الأوغاريتية دراسة مقارنة مع اللغة العربية في ضوء اللغات السامية، الدكتورة سميرة الراهب ـ مجلة جامعة تشرين.

[2]محمد خليفة التونسي، أضواء على لغتنا السمحة، كتاب العربي الكويتية، سلسلة كتاب العربي العدد الثاني، 1985

[3]للمزيد كتابي محمد جميل حطاب، معجم أسماء القرى في اللاذقية، ومعجم أسماء القرى في طرطوس، منشورات دار المنارة، طبعة ثانية