د. "دريد الأسد" : التعبير عن الأمل المترسخ والأزلية الحتمية للرسالة الفنية العميقة

إيمان أبوزينة - اللاذقية

حين يشدّنا المكان لنكون جزءاً منه، فإن ذلك يعني أن هذا المكان لخصّ الكثير من إعجابنا وتأثرنا بكل ما فيه وبكل ما يُحيط به...

في صالة C-art Galleryالفنية بمدينة اللاذقية، وفي اللحظة التي يستقبلك فيها أصحابها بمحبة خالصة وترحاب حار، ستُدرك أن ذلك التأثر والإعجاب لم يكونا من فراغ...

اليوم الرابع من كانون الثاني 2015 وفي لقاء خاص ومميز، استقبلنا الطبيب الفنان التشكيلي "دريد الأسد" في الصالة التي تضم عدداً من أعماله، إضافة لعدد آخر متنوع من أعمال فنانين تشكيليين سوريين من المحافظات السورية.

الحديث مع الطبيب "الفنان" له وقع خاص وفهمٌ آخر لبعض الأفكار الغير مكتملة الجوانب لدى البعض منّا حول أزمة التعبير عن الذات في الفن التشكيلي السوري المعاصر، وحول المدرسة الفنية التي ينتمي إليها والتي تختصر انفعالاته الذاتية من خلال إبراز مواضيع خاصة يحب رسمها بخطوط دقيقة مسيطرة على اللوحة وبألوان نقيّة تنقل المتلقي إلى فضاءات لونية وحركية تحترم الحس والذائقة الفنية:

* خُلِق الفن لخدمة الإنسان ... والأزمة تخلق دافعاً أكبر للعمل نحو الفن الجماهيري للتعبير عن طموح الإنسان والاقتراب من الواقع اليومي المرير، ماذا تقول عن ذلك؟

** قبل أن أُجيب عن هذا السؤال أريد أن أصحح جزئية فيه وهي عبارة "نحو الفن الجماهيري" ، لأن الفن برأيي لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يخاطب شريحة جماهيرية واسعة... فعبارة الفن الجماهيري تعكس الفهم الواسع لطريقة التصوير وأداء هذا الفن الذي يميل عادة إلى أسلوب التبسيط والفهم الواضح والتعبير الخاص الذي يكون له عادة مهمة دقيقة ومعينة في مرحلة ما من حياة الناس، لكن الفن التشكيلي بمدارسه المتعددة كالفن التعبيري والتجريدي والتكعيبي وغيرها هي مسألة مختلفة كل الاختلاف لأنها لا يمكن أن تتحول إلى كونها "فناً جماهيرياً" يميزه كما قلنا التبسيط والفهم والأدلجة أحياناً.

 

 

إن الفن التشكيلي لا يخاطب العقل الجمعي للناس لأنه يميل بتلقائية إلى صعوبة الفهم والقراءة، والناس "العقل الجمعي" تميل عموماً إلى التبسيط والواقعية أو التصويرية، فالفن التشكيلي برأيي يسبح في فضاء، والفن الجماهيري يسبح في فضاء آخر، لذلك دعينا نسبح في فضاء الفن التشكيلي ومن هنا برز تحفظي على جزئية سؤالكم...

كما أني أرغب أن أضيف هنا إلى أن الأزمة التي تعيشها سورية قد باعدت جداً بين الذائقة الجماهيرية وبين الفن التشكيلي وانتجت مفعولاً عكسياً، لأن العلاقة الحميمة ما بين الفن التشكيلي والحركة الثقافية عموماً هي علاقة تبادلية تفاعلية، وأي خلل في المنظومة الثقافية سيؤثر على الحركة الفنية التشكيلية بلا ريب.

فنحن نلمس ضحالة وضعف المعرفة الثقافية والاطلاع العام على الفن التشكيلي، ونلاحظ ذلك من خلال المعارض التي نقيمها ونشارك بها، ومن خلال الأسئلة البسيطة التي يطرحها المتلقي على الفنان: عمّا تعنيه هذه اللوحة مثلاً ؟؟!!.

*من المتعارف عليه أن الأزمات تخلق لدى الفنانين حالة معينة، فتدعوهم للتعبير عن مكنوناتهم بطريقة حسية وبصرية تحرر الخيال والفكر، وتمكّن الفنان من الخلق والإبداع، فماهو رأيك؟

** الحياة بتواترها الطبيعي والعادي تولد لدى الفنان حالةً تدفعه للتعبير بشكل بصري عن ذلك فكيف  بنا إذا عاش هذا الفنان مرحلة زمنية بتواتر غير طبيعي وغير عادي؟!

أعتقد أن الفنان سيتأثر بشكل كبير بهذه الظاهرة التي ستدفعه لتقديم شكل جديد من أشكال الفن الذي يعكس طبيعة الأزمة التي يعيشها هذا الفنان والبيئة التي تحتضن كل أحاسيه وحواسّه.

 

 

بشكل عام الفنان يحتاج دائماً للدافع، والدافع هنا برأيي هو مزيج من القراءات الثقافية والمعرفية والفلسفية والسياسية والدينية (أعني بالدينية كل الدينية)، إضافة إلى الذاكرة البصرية التي يغذيها من تلقاء نفسه ومن خلال ملايين الصور التي تنطبع في مخيلته يومياً.

الأزمة السورية، لاحقت الجميع وأثرت في الجميع وقد كنت من بين من تأثر بها فجاءت مرحلتي السوداء، وهي عبارة عن مجموعة لوحات فنية تشترك كلها في عنصرين اثنين:

الأول: التكوين الواحد الذي يعتمد على التقشف اللوني. والثاني: هو الخلفية السوداء التي تعكس حالة الفنان والفضاء الذي أراده لهذا التكوين أن يسبح فيه.

وفي حوارنا عن أزمة الإبداع في التعبير عن الذات في غياب سياسة ثقافية واضحة وتراجع الفعل الثقافي والإبداعي الفني ختم الفنان "دريد" حديثه بالقول:"الفنان إنسان حساس ويتأثر أكثر من غيره، والأزمة الحالية خلقت شرخاً عميقاً في العلاقات بين هؤلاء الناس والفنانين خصوصاً، مما أدى إلى حدوث خلل بنيوي في حياة الفنان التشكيلي دفعه إلى العمل خارج إطار الفن أحياناً بعد أن كان متفرغاً للعمل الفني بشكل كامل.

نحن نرى اليوم فنانين انتقلوا إلى مهنة تنفيذ أعمال الديكور الداخلي، وأعمال الجبصين، أو غادروا مثلا إلى مهن أخرى طلباً للعيش بكرامة ودرءا للعوز المعيشي الذي يهدد الفنان بشكل عام.

حسب رأيي فإن ذلك يعني انحطاطاً للفن لا يليق لا بالفن ولا بالفنانين ويؤثر بشكل مباشر على انحدار المستوى الفني بشكل دراماتيكي.

عندما ينحدر المشروع الفني المقدس لقاء لقمة العيش فإن ذلك يعني انحطاط الفن إلى أقصى الحدود للأسف.

 

 

سورية قبل الأزمة عَرفت ازدهاراً فنياً تشكيلياً هاماً ازداد معه الإقبال على اقتناء اللوحة السورية داخلياً وخارجياً، وذاع صيت الفن التشكيلي السوري في المحيط العربي والإقليمي بل والدولي، وهذا الأمر كان له ثماره الجيدة التي انعكست وفرة مالية تمتع فيها الفنان السوري فطور أساليب عمله وأدوات انتاجه الفني وإعطاء الزخم والدافع للمشاركة في كل المحافل الفنية التشكيلية في العالمين القريب والبعيد،

لكن بعد دخول سورية في أزمتها منذ حوالي أربع سنوات باشر الخط البياني العام للفنانين التشكيليين السوريين بالهبوط، وانخفضت معه معدلات بيع اللوحة السورية في الداخل والخارج، ونجم عن ذلك اضطراب وخلل في أداء هذا الفنان السوري الذي عكس هذه الحالة بطرق شتى تتسم بعنوان عريض أسميه "التشوش" : تشوش الفكرة... تشوش التكوين... التشوش اللوني... الخ.

وهذا أمر طبيعي ناجم عن الحالة العامة التي يعيشها فنانونا اليوم. لقد بات الفنان السوري يعيش في صومعته لخلق كينونة خاصة به معزولة عما يجري خارجها،  فيما عدا بعض الحالات القليلة التي أراد فيها الفنان القفز من فوق هذه الأسوار والجدران للتحليق في فضاء أكثر زهواً ولوناً.

من هنا جاءت مرحلتي الشخصية الثانية "وجوه تولد من جديد" التي حاولت أن أعبّر فيها عن الأمل المترسخ في عمق الفنان التشكيلي، وعن الأزلية الحتمية التي تحملها الرسالة الفنية العميقة في صلب الوجدان الإنساني والحضاري والمدني.

 

انتهى الحوار ومازالت أزمة الوطن قائمة، لكن حرية التعبير عن الذات في اللوحة ستبقى وسيلة للتغيير وخاصة إذا كان هناك ارتكاز على الحقيقة والموضوع وإدراك الأشكال وتصويرها بتفاعلية وحيوية وجمال أخاذ يعكسه المزاج الفني للفنان السوري الذي يمر بحالات متنوعة.