"النايل والعتابا والسويحلي".. لغة التخاطب في جميع المناسبات

كسار مرعي – الحسكة

بالإضافة إلى اللغة المحكية أو العامية كما يُصطلح تسميتها، وجدت منذ قديم الزمان في منطقة الجزيرة السورية لغة أخرى للتخاطب والتفاهم، لتعمل جنباً إلى جنب مع الكلام والإيماء على إيصال المعنى المراد؛ وتوحيد الخطاب بالرغم من اختلاف المقاصد.

فقد برع أهل الجزيرة ومنذ عقود من الزمن في مجال التخاطب؛ عبر الفنون الغنائية والشعرية التي تعمل على إيصال المعنى وطلب الحاجة ورد المظالم إلى أهلها، لكن الفرق بينها وبين الحديث العادي هو وجوب امتلاء المجالس وسرعة الانتشار وشمولية المعنى.

الباحث في التراث الشعبي "عايش الحسين" وفي حديث للمفكرة الثقافية بتاريخ 17/10/2014  قال: «المأثور الشعبي أو ما يعرف بالألوان الغنائية والشعرية الدارجة في المنطقة، هي كل ما يتصل بعادات الشعوب؛ وطقوسها وأساطيرها وأشعارها وأمثالها، وقد استخدم الباحثون هذا المصطلح لأنه الأوسع لسهوله نطقه، ولأن فنون العتابا والنايل والسويحلي هي مأثورات شعبية في تكوينها التاريخي والفني، وتعتبر الأغاني الشعبية في "الجزيرة" السورية امتداداً من الماضي إلى الحاضر، حيث انتقلت بالمبادلة التناولية بين الأجيال المتلاحقة، وقد أدى عدم  توثيقها واعتماد التناقل الشفهي لمضمونها؛ إلى ضياع الكثير من الفنون الشعبية والشعرية، حيث وصلت إلى يومنا هذا إما منقوصةً أو بأكثر من رواية.

ويتابع: «من خلال المطالعات والأبحاث يمكن اعتبار منطقة "الجزيرة الفراتية"؛ من المناطق الغنية بالشعر الشفوي الغنائي؛ ونهراً غزيراً من الفنون الشعبية المختلفة، وقد ارتبطت هذه الفنون بحالة الانسان اليومية، فكان الانسان يترجم كل أحداث ومواقف حياته اليومية  إلى فن ومن خلال هذا الفن يوصل ما يريد، وبهذا النوع من الفنون تلونت المناسبات والجلسات وازدانت، واستطاع من خلالها الرجل الجزري التعبير عما يجول في صدره من خواطر.

لقد أبدع الشعراء في المنطقة بما ينظمونه من أشعار وأغاني، إلا أن أسماءهم لم تصل إلينا، وفي أغلب الأحيان لم نعرف من قام بعمليات النظم والألحان، إلا أن ما وصلنا من هذه الفنون، عاش في داخلنا بدرجة عالية من الاهتمام، بسبب ما تمتع به من الرقي الحضاري والجمالي والانساني، ومن أبرز هذه الألوان أغاني "السويحلي" و"العتابا"  و "النايل"، التي لاقت رواجاً كبيراً، إذ أن معظم هذه الأشعار مفعمة بالصور البيانية والجناس والطباق، مما جعلها تؤثر بشكل مباشر في الإنسان المستمع، كما ساعد صدقها المأخوذ من تجارب الانسان مع نفسه على اعتبارها أموراً مرجعية».

وحول فن نظم وغناء "السويحلي" يرى الباحث: «أن هذا اللون يتميز بكلماته القليلة والمختصرة إلا انها بالغة التأثير، وعادة ما يحفظه وينظمه العشاق على شكل حديث النفس، ومحاكاة الأحبة والتغني بهم وبأوصافهم، ويتميز "السويحلي" برقة كلماته وعذوبة معانيه، وهو مؤلف من شطرين وتتموضع قافية البيت في منتصف الشطرين، ولا ينظم على أيٍٍ من بحور الشعر إلا أنه يعرف بوزنه المسموع والمسترسل ومنه:

حبر من الدموع ... مـكتوبكم يا زين

من بين الضلوع ... نار الفراگ تزيد

ويشتهر هذا اللون من الشعر في منطقة "الجزيرة"، كما أنه يقال في أغلب المناسبات، ويغنى متصلا أي لا يتم القطع بين الشطر والعجز، ويردده الناس بينهم وبين أنفسهم كنوعٍ من أنواع الطرب، وهناك ألوان أخرى من الفنون الشعبية التي تزخر بها المنطقة؛ مثل "اليايوم"، و "ظريف" الطول"، و"الميمر"، و "الموليه"، و"أبو حديد"، بالإضافة إلى "القصيد" وهو الشعر الموزون والمقفى، وقد اشتهر عدد من الشعراء بهذا اللون مثل "جلود الصليبي"، بالإضافة إلى وجود أنواع من الفنون الحركية المرتبطة؛ بالدبكات الشعبية والمحيا* والنعي والندب والحوتة والأغاني الحماسية، وبعض الأغاني التي تأخذ شكل الأهازيج ذات اللحن الخفيف، السهل الحفظ والبليغ بالمعنى كما يوجد أغاني للحصاد وأخرى للحنة».

وفي سياقٍ متصل يتحدث "عايش" عن فن "العتابا" قائلاً: «يُنظر إلى هذا الفن من ناحية الشكل والمضمون والهدف، الذي نظم من اجله إلا أنه أعرق الفنون الغنائية الشعبية؛ في "الجزيرة الفراتية، ويحمل الطابع الأكثر حزناً ووجعاً ويكس حالة صاحبه، وهو الفن الذي يولد من حالةٍ ما تعترض القائل وغالباً ما تكون في إطار المعاتبة، والأصل اللغوي للعتابا بحسب بعض المهتمين أخذ من امرأة كان اسمها "عتابا"، وكانت تسكن في منطقة "الرقة" وهذا يدلل على أن نشأة فن العتابا كان غرب الجزيرة السورية، إلا أن الكثير من المحققين في هذا المجال ضعّفوا هذه الرواية، أما الرأي الآخر فيذهب إلى أن اسم هذا اللون جاء من نفس المعنى اللفظي واللغوي، أي من العتاب والمعاتبة إذ أحدث تاريخ نشأة هذا الفن جدلاً واسعاً؛ ارتبط بغياب التدوين ما أشكل على الباحثين تحديد تاريخ ظهوره بدقة، لكن ما وجد في قاموس المحيط "للفيروز آبادي" من ذكرٍ واضح لمغني وعازف الربابة "ممدود بن عبد الله الربابي"، إذ بينت الكتابات أن هذا المغني عاش في القرن الرابع الهجري في "الجزيرة الفراتية"، يدحض الرواية السابقة التي ترجع نشأة هذا الفن غلى منطقة "الرقة" لذا يُرجّح ولادة فن العتابا منذ أكثر من ألف عام».

يتابع: «يكتب بيت العتابا على البحر الوافر وتفعيلاته "مفاعلتن مفاعلتن فعولن"، ويتكون بيت العتابا من ثلاثة أشطر تكون الكلمة الأخيرة من كل شطر؛ متطابقة اللفظ مع آخر كلمة من الشطرين الآخرين ومختلفة المعنى بآنٍ معاً، أي يتحقق الجناس البديعي والذي يتطلّب ثلاث كلمات لها نفس البناء الحرفي مع اختلاف معانيها؛ ويبقى الشطر الأخير حراً وغالباً تأتي القافية بألف وباء مثل "عتاب"، مثال:

يبو عيون السود چالحبر بدوالي

عليل ونــــومة حضينك دوا لي

يهل تـــوصفلي دوا انت دوا لي

على إيدك ختم جرحي وطــاب

وأيضاً:

يجابر لف جرحي عجل بدواي

غثيث الساهروني الليل بدواي

صدر كل الورود وظل بدواي

على بير الــحزن وانهل غثى

.............

نغط طير الحمام وگلت بليان

شوارب سود جوّا العين بليان

يا حفار اللحد ويديك بليـــــان

يـــازي تهيل ع الغالي تراب

وينتشر الخط الرئيسي من فن العتابا هذا في كافة أجزاء "الجزيرة الفراتية"، وهناك نموذجان آخران لهذا الفن، وذلك بزيادة ألف ممدودة أو مقصورة أو أنه ينتهي بياء مشدودة وهاء وينتشر في الجزء الغربي من "الجزيرة الفراتية" مثال:

أبـــات الليل چني بطـــــن حيه

معضعض والجروح اليوم حيه

لفـى ضعن الأحبهم وگلت حيه

وحيَّ الغــــــايبين إلهم سنــــه

وهناك لون يقترب في صياغته الفنية من "العتابا"، لكنه فنٌ غنائيٌ صرف ، وعرف بالأبوذية وينتشر في القسم الشرقي من الجزيرة الفراتية ومنه:

علامك تحمس بروحي عليّ مُرْ

أهيم وصار مشروبي عـــليّ مر

آني يوم سار مظعونك عــليّ مر

غدتْ شمس الضحى ظلمة عليه.

وأخيراً فن "النايل"  ويعتبر هذا اللون الأسهل نظماً والاكثر انتشاراً، ويعرف عمن يستمع إلى هذا اللون، أنه شخص حزين ويحمل في داخله أوجاعاً وآلاماً كثيرة، ويوصف النايل بأنه من الألوان شديدة الحزن وله تأثير شديد ووقع على النفس، ويكتب على البحر البسيط ويأتي شكل بناء بيته الأساسي على شطرين مقفيين بقافية واحدة ومنه:

مناحر فچوچ الخلا يا ريم وين تريد

هيمتنا ع الولف بأول ليالـــــي العيد

ويعتبر النايل من الألوان الشعبية المستقلة بذاتها لما تعالجه من قضايا انسانية وإبداعية كقولهم:

البومة إل بالچهف ساهرتها ونامت

وتگول يـازي حزن دنياك ما دامت**

وينقسم النايل تبعاً للآلة الموسيقية التي ترافقها فهو يقال أما مع "الزمارة" أو مع "الربابة"ومنه:

غصبن عليها أهملت ... والعين مو بيدي

كل ما أداوي جرح ... وجروحها تزيـدي

وهناك نموذج أحدث على شكل ثلاثة أشطر بثلاثة قوافي مثل:

كل ما تعنون

شلفة بظامري تحطون

مدري تچون السنة لو بالغرب تبطون

وتعود أصل تسمية هذا اللون إلى "النيل" وهو اللون الكحلي الغامق المائل للسواد، ويضرب به المثل إلى الحزن الشديد ويحتل نظم هذا اللون المكانة الأولى عند النساء ومنه:

سمرة وطويلة ... والعين  عين الطير

كحيلة وأصيلة ... هدلة على البنوات

...

سمرة وطويـــــلة ... وذراعـــــــها مدگوگ***

ترمي صفوف الگطه ... لي سلهمت ليفوگ».

ويختم "الحسين": «مما يجدر ذكره أن كثير من رواد العلم عملوا بهذا المجال التوثيقي؛ الخاص بالتراث العربي مثل "الأصمعي" و "الجاحظ" و"الكسائي" ، ونهلوا من تراث البوادي والأعراب، لأنهم أدركوا أن تراث أي أمة يعني هويتها، لكن وللأسف الشديد مرت على هذه المنطقة فترات طويلة ومتلاحقة؛ فترت فيها عزيمة المؤرخين بل وانعدمت، ما تسبب في فقد كثير من التراث الشفهي؛ الذي يعده الباحثون من أهم أنواع التوثيق».