المقاومة عن طريق الفن التشكيلي

ضياء صحناوي

بقيت ملكات الإبداع في مقدمة الصف المقاوم انطلاقاً من وعي الفنانين التشكيليين الأخلاقي والثقافي لمفهوم الوطن، فبقي هذا الفن أميناً بالتصدي لمجموعات الوحوش الضارية وهي تقتحم كياننا ووجودنا دون واعز أخلاقي يردعها بالعودة، فكان الهم أن تطرد خارج حدودنا الإنسانية.

وقد انتبه الفنان الدكتور "عبد الكريم فرج" في حديثه للمفكرة الثقافية عن أن المقاومة بواسطة الفن التشكيلي لم تكن وليدة اليوم، وقال: «في غفلة من الزمن لم يتذكر القتلة لوحة "دولاكروا" الذي رسم (الحرية تقود الشعوب) عام 1830 التي ترمز لإعلاء سيادة فرنسا كلها موحدة وقوية، وفارس العصر الذي ترجل وهو يحمل الوشاح الأحمر محتجاً مذكراً بصورة الفنان الاسباني "غويا" عندما رسم ويلات الحروب عام 1814 احتجاجاً على احتلال فرنسا لبلاده، وجاء "بيكاسو" في لوحته الشهيرة (الجورنيكا) عام 1937 الذي صوّر فيها الصرخة الإنسانية المدوية وهي تغرز البشر أوتاداً في أديم الأرض رافضة الخنوع، ثائرة على القصف النازي للقرية الإسبانية، وكذلك في روسيا وأمريكا اللاتينية وثورة "سيمون بوليفار" و"تشي غيفار"، وكذالك الفنانون الأفارقة الذين جسدوا قصة كفاح "نيلسون مانديلا"، وغيرها الكثير من الصرخات المدوية ضد الظلم والقهر والقتل».

احتلت "فلسطين" الجريحة مساحات واسعة في أعمال الفنانين على الدوام، ولم يكن الأمر يتوقف على ريشة فنانيها فقط، فهي جزء من سورية ورئتها الحية، فراح الفنانون العرب يشربون آلام التشرد والاحتلال، ويستنهضون الهمم في أعمالهم.

ويتابع "فرج" سيرة المقاومة الفلسطينية عبر الفن بالقول: «قامت "ريم منذر" باستعارة أقوال "مارتن لوثر كينغ" أثناء ثورق الزنوج، ورسمت آلام وطنها الجريح، وخط الفنان "عبد الرحمن المزين" عام 1973 في عمله (خذ مكاني إذا سقت في النضال) صرخات مدوية تتابعت عبر مجموعة من اللوحات، وكذلك أبدع الفنان العراقي "عامر العبيدي" فلسطين في عمله (مقاتلي الحرب) عام 1975، وأعمال الفنان الفلسطيني "أحمد الركوعي" الذي أعاد بلوح فني تكوين الإنسان الفلسطيني على شكل مقاوم أو شهيد.. أما العبقرية فتجلت في أعمال الفنان "مصطفى الحلاج" الذي استدعى روح الأسطورة من خلال صنع صوره المطبوعة جسوراً بشرية وممرات في المجرة الأرضية، وقد تواكبت شخوصه عبر أنساق مرسومة بتجليات الإنسان الفلسطيني الذي أصبح علامة للأرض والمكان.

ومن سورية قاوم الفنان السوري فكرة الفصل والاحتلال بطريقته، فها هو الفنان "نذير نبعة" يفصل عضلات الجسم الإنساني في هيئة بناء مقاوم.  ومثله الفنان الفنان "برهان كركوتلي" الذي يصور الأرض مثقلة بآلات القتل والحراب الصهيونية تحت سحاب الطائرات الإسراثيلية.

والحقيقة أن الصور المتمردة انتفضت في فضاء الفن العربي لتحول الرموز إلى واقع ثائر ويرسم "سليمان منصور" معمّراَ حوّل الزمن زنوده إلى أعمدة ترفع "القدس" على الرأس بدلالاتها في قلب "فلسطين"، ولا ننسى في خضم الرؤية التي اقتنصها الفنانون صورة لتلك الحالة ما فعله "ناجي العلي" فيده كانت كروح متقمصة في كل جدار، وتشق غبار الجدران المتهدمة متجهة صوب الأرض بأصابعها الخشنة لتقذف ذلك القزم الصهيوني بعيداً عن الجدران الفلسطينية العتيدة، وتحرر "حنظلة" من عقاله .

ليس الفن مجرد رفاهية، وليس نزهة مترفة برفقة اللون تنتهي معلقة على جدران القصور، هذا ما أكدته تراكمات تجارب التشكيليين العرب عموماً والسوريين خصوصاً على مدى العقود الماضية، يقول الفنان "فرزان شرف": «لطالما كان الفنان السوري حاضراً مع أي فعل مقاوم في شتى ساحات القتال مع اختلاف طبائعها وأساليبها وغاياتها، يحمل داخله أمانة الموروث الحضاري، سلاحه ريشه ولغته الألوان يرصد ويؤرخ بها عنفوان وأصالة الانسان متنبئاً ومبشراً بالنصر تارة، وناقداً جريئاً رافضاً للتخاذل والتراجع والقنوط تارة أخرى، ليؤكد بذلك أنه جزء من النسيج الاجتماعي والتفاني، وبإنه ابن المكان والزمان يحمل على عاتق ريشته همومه وآلامه.

الفنان "أدهم إسماعيل" في لوحته "الفارس العربي" يرسم تلك الحالة المستمرة بخط متشابك لا ينتهي لينهض حصانه متحفزاً مستعداً ومتحداً مع فارسه الواثق، وكأنه يريد القول :«أنا هنا... موجود.. مستعد وغاضب»، مستحضراً أصالته برمحه ثلاثي الرؤوس الذي لم يغادر يده بعد.

لقد حملت اللوحة دلالات مشبعة بالتفاؤل والإيمان، وقد عبر عنها "إسماعيل" بالألوان والخطوط المنطلقة إلى الأمام على أن المستقبل غايتنا وهدفنا وأن لنا به نصيب .

للوحة صوت لم تنطق به وسيلة أخرى، صوت قوامه لغة بصرية متفردة من حيث المنهج والتحوير والصياغة، تبتعد عن الإيديو لوجيا وتقترب من ضمير الشارع وأمنياته.