"الكِدْيَة والمكدّين"... أدب التسول والمقامات في العصر العباسي

كسار مرعي - الحسكة

لكل عصر أو حقبةٍ من الزمن ما يميزها عن غيرها، ولا يقتصر التميز على جانبٍ واحد في أمة من الأمم، بل قد يتعدى التميز جوانب كثيرة في الحضارة الواحدة، ففي الدولة العباسية نال الأدب عنايةً كبيرةً من الباحثين؛ لكن هذا الاهتمام اقتصر على دراسة أعلام الشعر وقممه البارزين، فيما أهمل الأدب الشعبي اهمالاً كبيراً.

هذا التجاوز عن الأدب الشعبي شكل هضماً لحقوق بعض الظواهر؛ التي انتشرت في الأزمان الماضية، إذ كانت الحياة الشعبية في ذلك الزمان؛ تزخر بعشرات الظواهر التي تستحق الدراسة والتوثيق، ومن هذه الظواهر "أدب الكدية" الذي يعتبر الأكثر تميزاً، ما حدا ببعض الباحثين إلى الغوص في معينات الكتابة والاستعانة بكل ذي صلة، للوصول إلى توثيق هذا الوجه الطريف والماتع من هذا الأدب.

المفكرة الثقافية التقت "أحمد الحسين" الباحث في مجال الأدب والدراسات الأدبية بتاريخ 5 كانون الثاني 2014 لينقلنا إلى طرافة هذا الأدب،  الذي أغفل ذكره كثير من المؤرخين فقال: «تعد "الكدية" ظاهرة اجتماعية مميزة فيها من الطرافة والغموض الشيء الكثير، ولا يقتصر تميزها على ما هيتها فحسب؛ بل يتعداها إلى حيز الأدب إذ كان كثير من الأدباء ينضوون تحت لوائها وينتظمون في فلكها، وقد بلغت "الكدية" أرفع مستوى لها في العصر العباسي، لذا من الواجب قبل دراسة هذه الظاهرة الاجتماعية، الوقوف على حقيقة الأسماء والمصطلحات التي أطلقت على هذه الحرفة، ومن أشهر هذه المصطلحات ثلاثٌ عرفت بها وهي "الكدية والشحاذة والساسانية"، أما الكدية فقد اختلف اللغوين والمعجميون في أصلها اللغوي من حيث ارتباطها بالسائل، فأحد الآراء يقول أنها لفظة عربية مشتقة من "أكدى" وآخر يراها محرّفةٌ من "أجدى" وثالثٌ يجد أنها لفظة معربة».

يتابع: «لم يرد في كثير من المعاجم أن "أكدى" تأتي بمعنى سأل، إلا أن ثلاثة من المعاجم وهي "تهذيب اللغة" و"لسان العرب" و"تاج العروس"، انفردت عن باقي المعاجم فأضافت إلى المعاني اللغوية المعنى الاصطلاحي للكدية كدلالة على حرفة السؤال، وذهب "أبا بكر محمد بن القاسم الأنباري"؛ إلى أن "الكدية" لفظة عربية مشتقة من "أجدى" وقد قال أحد الشعراء:

يا ظالماً متعدي / من الجدية يجدي، ويقال مُجدٍ ولا يُقال مُكدٍ وعلى هذا يكون الاستخدام عامياً، وعليه يكون قد تم إبدال الكاف بالجيم، وهناك من ذهب أيضاً إلى أن "الكدية" لفظة معرّبة ومنهم الدكتور "محمد معين" في معجمه "فرهنك فارسي"، حيث أورد أن كد Gad، وكداي هو من يطلب من الآخرين شيئاً لدفع حاجته، ولعل ما يرجح أن كلمة "كدية" فارسية معربة، هو أن العامة في الجزيرة السورية والعراق ما زالوا يلفظونها بكافٍ فارسية، ومما يقوى هذا المنظور أن "الجاحظ"؛ أورد معاني "أكدى" في كتاب "الحيوان"، لكنه لم يشر في دلالتها على فئة المكدين، وهذا يُفَسَّرُ بأحد أمرين فهي إما أن تكون معربة أو أنها محرفة جرى فيها إبدال».

"الشحاذة" ثاني المصطلحات وعنها يقول: «ترافقت هذه الكلمة مع "الكدية" إلا نها أصبحت أكثر رواجاً؛ من اللفظة الأولى التي انحصرت في بعض الأماكن، وقد ورد شرح هذا المصطلح تلميحاً في "التهذيب" وهي أن الشحذان يعني الجائع وأضاف "ابن فارس" أن الشحذان هو الخفيف بالسعي، وهي عبارة يصح إطلاقها على السائل الذي يشتهر بالسعي والارتكاض في الأرض، إلا أن هذه اللفظة وردت صريحةً عند "الزمخشري" الذي ربط بين شحذ وسأل، إذ قال فلانٌ يشحذ الناس أي يسألهم ملحاً، وقال "الخفاجي" سائراً على طريق "الحريري" إن الشحاذ هو المُلحُّ في المسألة، وهو تجّوزٌ من شَحَذَ السكين إذا سنّها، وعليه تكون شحذ لفظة عربية، أما أصحاب الرأي الثاني فيرونها كلمةً عامية، مستدلين عليها بإبدال اللغة التي تعرف في كثير من المناطق؛ كقولهم "شحات" في مصر، وقولهم في الشام "شحاد" وتقاس على إبدال الذال بالدال المهملة في "دهب" وهو الذهب و"توم" وهو الثوم و"تار" وهو الثأر، كما تلفظ "شحاذ" بالذال المعجّمة في مناطق الجزيرة السورية، وآخر الآراء يرجعها إلى أصل غير عربي، وهي مأخوذة من "شحتو" السريانية؛ بحسب ما تم ايراده في معجم الألفاظ السريانية للباحث "مار اغناطيوس"».

أما التسمية الثالثة فهي "الساسانية": «وشاع اطلاق هذه التسمية في القرن الرابع الهجري، فصار يُقال للمكدي "ساساني"، ولا أظن أن تأكيد صلة النسب بين الأسرة الساسانية التي حكمت "إيران"؛ وبين المكدين بالأمر السهل، فهناك روايتان الأولى تقول إن "ساسان بن بهمن بن اسفنديار" ملك انحطت مرتبته، فتشرد في الجبال ورعى الغنم فنسبت إليه المهن، وهو رأس الشحاذين وكبيرهم حسب ما أورد "اسلوستري دي ساسي" في شرحه  لمقامات "الحريري"، أما الرواية الثانية فتقول إن "ساسان بن قاقان" ينحدر من سلالة "أردشير بابك" مؤسس الدولة الساسانية، وهذا يقودنا إلى أن نسبة "المكدين" إلى الساسانية نسبة ميثولوجية، تشبه ما نراه عند الهنود من توحيدهم الأمة في جسد "براهما"؛ وخلق الفئات الاجتماعية من أعضائه، ويلاحظ أن الساسانية أو الساساني من الألفاظ التي لم يطلقها المجتمع على المكدين، إنما ادعاها "المتسولون" ليكسبوا شيئاً من الشفقة؛ على أساس انهم أبناء سلالة شريفة مال بهم الزمن وانحط بهم الحال، حتى صار يُنسب من يحترف عملاً غير شريف إلى الساسانية، ومما سهل عليهم ادعائهم كثرة تقلّب الدول آنذاك؛ واضطراب الأحوال السياسية في الأمصار، حتى ألف الناس مشاهدة هذا الخليفة أو ذاك الوزير واقفين على باب المسجد، يطلبون النوال بمذلةٍ وانكسار، إلا أن خلاصة القول هي أن الكدية ثقافة سادت في عصور مضت؛ وخلفت ورائها أدباً متعدد الوجه والتصنيفات، وذلك بسبب تلون المكدين واختلاف انتماءاتهم ومشاربهم».