الصورة.. سيدة الميديا في عصر العولمة

  كمال شاهين - اللاذقية

يمكن القول إن القرن العشرين هو قرن الصورة بامتياز، بكل أنواعها الثابتة والمتحركة، والقرن الحالي سيكون قرناً آخر لصورة من نوع جديد سوف يتعمم بعد وقت ليس بالبعيد، إنه قرن الصورة ثلاثية الأبعاد.

منذ اللحظة الأولى التي اكتشف فيها الإنسان وعيه المفارق لمحيطه الحياتي، عمد إلى توثيق وجوده عبر أنواع شتى من صنوف التوثيق كانت الصور والتصوير أولها، فخطوط الفحم والهباب والنحت على جدران الكهوف هي أول الصور ـ بوصفها قيمة ثقافية  أراد الإنسان إيصالها لمن هم حوله ولمن سيأتي بعده، لنصل اليوم إلى صناعة متكاملة للصورة، تجّلت بوصفها علامة ثقافية ومصدر استقبال وتأويل، ولها فلسفتها وبنيتها وشركاتها المختصة أيضاً.

مولد التصوير الضوئي كان على يد (داجير)، وقد تم الإعلان عن تصميم وتنفيذ أول كاميرا صندوقية من الخشب في السابع من كانون الثاني عام 1839، ومنذ اللحظة التي اختار لها "جورج ايستمان" مخترع كاميرا "كوداك" الصندوقية عبارته الشهيرة "اضغط الزر ونحن نقوم بالباقي" عام 1888 إلى اللحظة الراهنة، تدفقت على الذاكرة البشرية مليارات الصور التي توثق كل حبة رمل على سطح البسيطة، وكل واقعة حدثت، وبدا أن النسيان الذي تقول الحكاية أن اسم الإنسان اشتق منه، لم يعد وارداً في مطلق الأحوال.

واليوم أيضاً، أينما ولّينا وجوهنا سوف تطالعنا (صورة)، في الشارع، في البيت، على الحاسب، في العمل، على حائط الجيران، في كل صغيرة وكبيرة هناك (صورة) تخترق الوعي لتقدم نفسها بكامل محتواها وشكلها ورسالتها إلى أنواع مختلفة من المتلقين مختلفي الذهنية والوعي أيضاً، والصورة بمعناها المجرد أصبحت تفرض "هندسة" سلوكية خاصة في ظل الانتقال الفظيع للعالم من الواقعي إلى الافتراضي، وبالعكس.

وفي ظل تدفق أكثر من 300 مليون صورة عبر الفيسبوك يومياً، نحن أمام مفاهيم جديدة تقوم فيها الصورة بفعل يتعدى المحتوى والشكل إلى التأثير على "أيديولوجيا" و"ثقافة" و"فكر" مجتمعات بكاملها، وبما يمكن أن يتناقض أحياناً كثيرة مع خصوصيات الهوية المحلية، خاصة إذا عرفنا أن أكثر من نصف الإنتاج العالمي للصورة لا علاقة لنا به سوى لناحية التلقي غير المحصن من التأثير.

بناء الصورة... عمودياً وأفقياً.

يقوم بناء الصورة كما يقول في حديث مع "المفكرة الثقافية" الفنان التشكيلي "عامر ديوب" خريج قسم التصوير في كلية الفنون الجميلة بدمشق على "التوافق الدقيق بين الشكل بكل عناصره (لون، حجم، تقنية ...الخ)، والمحتوى (المادة المحمولة في الصورة، الرسالة، اللحظة، اللقطة بحد ذاتها)"، وهما معاً يشكلان القيمة المضافة للصورة في العقل البشري، ويحققان الانتقال من لحظة راهنة بمواصفات معينة، إلى لحظة قد تكون مفارقة كلياً للوعي المتكون عبر سلسلة طويلة من التفاعلات النفسية والفكرية.

في الشكل، تلعب الصورة بمهارتها المفتوحة التأويل غالباً لعبتها باستخدام جملة تقنيات من بينها اللون، فالألوان هي حوامل رسالية كبيرة، فلا شك أن وجود اللون الأحمر سيوحي بالعنف في غالب الأحيان، والأسود والرمادي بالخراب أو العتم تبعاً لكثير من التدفق اللوني عبر الشاشات التلفزيونية وعبر تكريس الرؤية الغربية (المعولمة) في سياق تاريخي ممتد من لحظة ظهور التلفزيون (كأحد أبشع أنواع الصورة الموجهة).

في فلسفة علم اللون، هناك ألوان حارة وأخرى باردة أيضاً، وكل لون يقدم عبر مجموعة مصطلحات تقنية هذه العناصر للمتلقي (السطوع، الإشباع، العنصورات. الخ)، واللون هو أول عنصر تلتقطه العين في جدل الصورة والشكل ليأتي المحتوى موازياً له في لحظة التلقي بتأخر لحظي غير ملحوظ، ليذهب بالمتلقي حيث يريد، إلى الدرجة التي دفعت ببعض الخبراء للقول إن الإنسان بدون الصورة لا يمكن خداعه!!

النقطة الثالثة والمهمة جداً في عناصر الصورة، هي أن الصورة تتكلم بكل لغات العالم دون أن تنطق بحرف واحد، فكأنها مشتقة من اللغة الفطرية للبشرية، لغة العيون، وهي حقيقة تعد شكلا متطورا من هذه اللغة التي لا تحتوي حروفاً بقدر ما تحتوي "إشارات"، وكل صورة لها إشاراتها التي تتجاوز الحدود والمتاريس الذهنية والثقافات، وتتخذ لنفسها خطاباً عن طريق "المباغتات" و"التناقضات" و"المخاصمات" للبداءة المتوقعة منها في غالب المسيرات التي تجتاز بها عتبات المصورين إلى العموم.

ما وراء الصورة... حكاية طويلة:

المعضلة التي تحدث عنها "ريجيس دوبريه" قبل عقود لا زالت هي نفسها، "فالصورة تحيا بنا ونحيا بها، ولكن لا بد من معرفة حياتها وموتها هي".

في حياة الصورة وموتها أياً كانت الزمنية التي تعبرها، فهي تفعل فعلها الكامل والمنجز في المتلقي. إن "الصورة" خلقت كما يشير أيضاً "رولان بارت" خطاباً موازياً لخطاب الكلمة عبر "علامات"، هذه العلامات تستخدم في خدمة المضامين المرسلة عبر المحتوى.

من أهم العلامات التي تظهر بها الصورة للمتلقي تغييب السؤال المهم الذي يفترضه سياق التلقي، لماذا هذه الصورة تحديداً؟

هذا السؤال يطرحه مؤلف كتاب "ازدواجية الرؤية الصورة الفوتوغرافية في وسائل الإعلام عصر العولمة‏:‏دراسة تطبيقية على أحداث الحادي عشر من أيلول ‏2001" قبل أي سؤال، فالصورة "البريئة" شكلاً وحضوراً ليست كذلك في "المرسِل" ( ويأخذ الكاتب دراسة إحصائية للصور التي التقطت وقت تفجير البرجين)، فيجد أنه من بين 1500 صورة التقطت خلال يومين للحدث في 400 صحيفة أميركية، ركز أكثر من 41% على ارتطام الطائرة بالبرج الجنوبي، و17% على سحب الدخان فوق منهاتن، و14% لمشاهد الخراب، و6% فقط لمشاهد الهلع والفزع في نيويورك ، "وهو ما يجعل المؤلف يقرر بأن عذاب المبني هو ما سيطر الحدث ليحل مكان عذاب الضحايا من الجنس البشري‏، ولهذا السبب بدا لنا في كل وقت أننا نشاهد نفس الصور لأحداث الحادي عشر من أيلول‏، ‏فقد انحصر النشر علي مجموعة صغيرة من الصور كنموذج موحد عن الحدث، والأكثر من ذلك فإن الوضع كان مماثلا بالنسبة للصحف العربية وفقا لدراسة أخري مشابهة"‏ 

في النموذج  المحلي لهذه العلامات، صورة انتشرت قبل عدة أشهر عن طريق مواقع التواصل الاجتماعي بسرعة انتشار الفايروسات، تمثل الصورة كما نقل وقتها "طفلاً سورياً ينام بين قبري والديه اللذين توفيا في خضم الأحداث السورية الراهنة"، لم يتوقف أي أحد عند الصورة ليسأل عن مصدرها، ولا من صوّرها، وهو السؤال الأولي الذي يطرح دائماً لمعرفة من "وراء الصورة" وبالتالي من الذي يريد "تحميل" هذه الرسالة للعالم، وإذن نقول العالم فلأنها فعلاً للعالم وليست لنطاق بلغة واحدة، فالصورة كما قلنا تتكلم بكل اللغات حتى المنقرضة منها، وهي لليوم أسرع وسيلة تواصل بشرية.

في متابعة بسيطة على الصفحات التي نشرت الصورة، وجدنا أن نسبة "الإعجاب بالصورة" أخذت أرقاماً قياسية بلغت رقماً يقترب من نصف مليون، ونسبة مشاركة بلغت بحدود41 ألف مشاركة، وهذا يعني وفق قراءة بسيطة أن "الرسالة وصلت"، "العقل" الذي اختار الصورة ليحكي بسطر واحد عنها تمكن من الوصول بالتأكيد إلى ملايين من الناس، المفارقة أن الصورة التي بثها ناشطون معارضون أول الأمر، تحولت للجهة المقابلة لتقدم نفسها برواية معكوسة، كلا الروايتين اتفقتا على "الإرسال" دون التأكد من حقيقة ما تحمله الصورة من "مضامين"، وإذا ما أخذنا منتبهين أن الصورة لطفل في العاشرة فما فوق، ويلتحف "السماء" وبجواره قبران أعدّا على عجل بدون "شواهد ولا أسماء" بدت لنا واضحة "قوة" و"قسوة" الرسالة المراد نقلها حول العالم، "الأطفال" ذلك العالم "البريء الوديع غير المعني بما يحدث هو ضحية"، فكرة الضحية نفسها تتعدد هنا وتصطف "سياسياً" مع هذا الجانب أو ذاك، كذلك يتعدد "الجلاد" في هذه الصورة، فهو حاضر بقوة توازي حضور الموت، وحضور الأحجار الصغيرة التي وضعت فوق القبرين.

بعد أشهر من ظهور الصورة، يبدو أن صاحب الصورة انتبه إلى انتشارها الكثيف وبما لا يقترب من غايته التي نفذ بها الصورة، فالصورة هي لابن أخ مصور سعودي (عبد الله العتيبي 24عاماً) ضمن مشروع تصوير له عن بعض مفاهيم العلاقة الأبوية، وقد وضعها على حسابه على أنستغرام مع رسالة تفيد بأن "بعض الآباء حتى بعد رحيلهم يبقون لأولادهم أكثر دفئاً من بعض الأحياء"، وقد أعاد الرجل التأكيد على أن الطفل ليس سورياً (واسمه إبراهيم بالمناسبة)، ولا علاقة له بما تم تناقله عن الصورة من "مفاهيم" أو "كلام" أو "موقف سياسي".

خواتم...لما ليس فيه خواتم

تتيح الصورة تقديم كل شيء، الحقيقة، والتزييف، الصدق والكذب، البراءة والتوحش، اليوم صورة واحدة كافية لقلب حكومات، وافتعال حروب، وهي تتحول إلى ديكتاتور لا مرئي يستعيد "جورج أوريل" في "1984"، وإذا كان أخيراً "إدوارد هريو" يعرف الثقافة بأنها كل ما يبقى للإنسان بعد "نسيان" كل شيء، فإن هذا النسيان أصبح بعيد المنال إلى درجات كبيرة .