"البروكار": وجد في الحضارة التدمرية وتناقلته الدول عالمياً

"البروكار" تراث دمشقي عريق، عانى في الآونة الأخيرة من نضوب الاهتمام به كحرفة يدوية موروثة، لها وجودها تاريخياً وأهمية في إنعاش الاقتصاد السوري، غنية بنقوشها وزخارفها المستوحاة من الطبيعة والإنسان، فما أسباب العزلة التي تحضرها عموماً في وقتنا الراهن، رغم أن البعض أشاد بحضورها وتطورها، وكيف يمكننا العمل على استثمارها اقتصادياً وإعادة صناعها إليها

موقع المفكرة حمل هذه التساؤلات وزار السيد "شيركو متيني" صانع وتاجر "بروكار"، وهو من المروجين له خارجاً، والأكثر حرصاً على نقائه وجودته، وبقائه في حاضرة الذكر والتراث،  وكان معه هذا الحوار:  
*دعنا أولاً نتحدث عن بدايات "البروكار" في "دمشق"؟
**حظيت أقمشة الحرير الطبيعي عند الدمشقيين باهتمام كبير، وكانت مرغوبة بكثرة، وعلى رأسها "البروكار" الذي انتشر في "دمشق" منذ القدم كحرفة فنية ومن المناطق التي اشتهرت به منطقة "ركن الدين"،  وفيها خمسة عشر ورشة تسمى الواحدة منها "عبّارة الحرير"، موزعة على خمسة عشر عائلة  جميعها تملك أنوالاً يدوية وتختص بنوع من أنواع "البروكار" بأسلوب وزخارف ونقوش معينة، ومن بين تلك العائلات أبي وجدي، وقد ورثت المهنة عنهما.

* ماذا عن النقوش المتوارثة في المهنة؟
**يبدأ "البروكار" بنوعيات "السادة والجاكار"، ويقسم إلى عدّة أقسام. أما القسم الأول: فيحوي ثلاثة ألوان، وهو سياق واسع متعدد النقشات، أذكر منها نقشة "العاشق والمعشوق، وزهرة الكشمير، وزهرة عمر الخيام، واللوزة الكردية، واللوزة الشامية، والبندار"، وهو عبارة عن شال حريري مزخرف يلف على الخصر عند الرجال الدمشقيين القدماء، وهناك نقشات أخرى مشهورة مثل  "البندقة، واللوزة المجنحة، والكشميرة الصغيرة، والوردة الشامية التي تعرق على الجدران، و الزنبقة، ولوزة الصليب، التي تنقش على ثوب "الخوارنة" المسيحيين.
القسم الثاني يحوي أربع ألوان، أذكر من نقشاته: "البندقة مع نقطة، والهلال العثماني، والخيوط العربية"، والقسم الثالث يحوي خمسة ألوان، من نقوشه "زهرة الخشخاش ـ (بوب)، ولها قياسات كبيرة وصغيرة، يداخلها قصب مطلي من الذهب الخالص والفضة الخالصة.
القسم الأخير يتألف من سبعة ألوان يسمى "السبع ملوك".. هذه النوعية تميز بها الدمشقيون  لصعوبة عملها ودقة نسجها، فنجد عليها نقشواً تمثل القوارب التي تحكي أسطورة "صلاح الدين الأيوبي" في تحريره "للقدس"، ونقشة "السبع ملوك" المشهورة عند الأوربيين، ونقشة "الموزاييك الدمشقي"، ونقشة "الطاووس" الآتية من "الشرق الأقصى والصين والهند"، ونقشة ألف ليلة وليلة التي تروي قصص "شهرزاد"، ونقشة "رحلة الصيد" المأخوذة من العهد الأموي وتروي رحل الصيد عند السلاطين والملوك.

تراث وجد قبل الميلاد
*هل هناك تاريخ يحدد انتشار "البروكار" في العالم؟
**لا يوجد تاريخ محدد لانتشار "البروكار" في العالم العربي الإسلامي، ولكن يقال إنه وجد قبل الميلاد، ودلائل هذا المقولة النقشات المتوارثة بتسمياتها وقصصها.
*ما هي معلوماتك عن تسميته بهذا الاسم؟
**الكلمة تدل على قدم الصنعة، وتقسم إلى اسمين، "برو" وتعني "أبرهة" في اللغة الإنكليزية، وفي العربية "إبراهيم"، وتروي لنا قصة سيدنا "إبراهيم الخليل" عليه السلام، وكلمة "كار" قديمة جداً، وتعني في الكردية "مهنة عريقة الأصل".
* كيف انتقل "البروكار" من "دمشق" إلى العالم؟
**هذا النسيج في "دمشق" تحدث على مر السنين، فالعثمانيين أبدوا اهتماماً شديداً به كصناعة    يدوية عريقة وحاولوا استجراره إلى "اسطنبول" التي حملت اسم "الأستانة"، ولم يفلحوا في نشرها بسبب احتفاظ الأغوات الأكراد الذين كانوا حراساً للحج بها، واستقرارهم الأساسي في "دمشق"، فكانت المهنة مفخرة لهم.. لذلك نجد الآن في "تركيا" أو في بقايا الدولة العثمانية بعض المهن المشابهة  للبروكار الدمشقي، وفي حقبة الانتداب الفرنسي على  سورية  حاول الفرنسيون نقل المهنة بأكملها إلى مدينة "ليون" الفرنسية، ولذلك نجد أنها تحوي أنوالاً يدوية شرقية مأخوذة من  دمشق، لكن رغم وجود الأنوال لم ينجحوا في نشر صناعة "البروكار"، لافتقارهم إلى المادة الأولية وهي الحرير الطبيعي السوري.

عائدات البروكار تنعش الاقتصاد السوري
* ماا لفادة التي يحققها استثمار الحرير الطبيعي  في "سورية" كعائدات مالية برأيك؟
**نجد في "الساحل السوري" الخيط الخام الطبيعي، الذي يعتمد عليه النسيج اعتماداً كلياً، والحرير السوري يفخر بنقاوة لونه، وقوة نوعيته، فله دوره في إنعاش الاقتصاد السوري القديم والحديث، والدخل العائد من الحرير الطبيعي فقط يماثل دخل البترول في الاقتصاد العالمي، وينعش "سورية" اقتصادياً فيما لو قنعت به كمشروع استثماري للعمل، لكنها للأسف تعاني اليوم من ضعف إنتاج الخيط الحريري، ومثال ذلك أنه في عام 1965، كان إنتاج الحرير في الساحل السوري يتجاوز 14 طناً سنوياً، بينما في عام 1995 لا يتجاوز الطن والنصف.. وهذا احتكار الدولة للحرير من المزارعين وبيعهم البذور الموسمية لدودة "القز" بأسعار مختلفة بعيداً عن إيجاد دعم لازم لصناعة الحريرماسبب تراجعا للمهنة، كما  أن صانع "البروكار" من أغنى الناس مالياَ لأن صعوبة العمل لديه تعكس أجرته كدخل.

* هناك حلولاً تقترحها لإعادة استثمار الحرير الطبيعي السوري؟
**تبدأ الحلول من توزيع الأراضي المشاع على المزارعين، لزراعة شجرة "التوت" في  الساحل السوري" حصراً كونه يحمل تربة مناسبة للزراعة، وعدم عشوائية زراعة  التوت  في  سورية، وبيع بذور دودة  القز  السنوية أو الموسمية بأسعار مناسبة للمزارعين، وشراء الشرانق في وقتها وبسعر ينعشهم اقتصاديا، وتوزيع المحاصيل في أرض خصبة للحصول على إنتاج جيد، وإيجاد السوق المناسبة لترويج صنعة  البروكار  والحرير، من حيث الاشتراك في المؤتمر العالمي للحرير الموجود في مدينة "ليون" الفرنسية لإلقاء الضوء الصحيح على كل جديد من كل سنة في صناعة الحرير، وإيجاد سوق مناسبة لتصنيع  البروكار  الدمشقي  وترويجه عالمياً، أي الاتصال مع مصممين أزياء عالميين  وتسهيل المعاملة معهم، أيضاً تدخل وزارة  السياحة  بشكل فاعل لإيجاد الخبراء في صناعة الحرف اليدوية القديمة "البروكار والحرير والأغباني والصرما والشامة"، والتطريز الدمشقي القديم والتطريز الجبلي في  السويداء ، وتوظيفهم في إنعاش هذا المجال.
 
الحرير السوري في الحضارة التدمرية
* هل لدينا دلائل تاريخية تشير إلى أن الحرير الطبيعي  موجود كعنصر هام تاريخياً، ومتداول بين الناس في حقب قديمة؟    
**تاريخ حضارة "تدمر" يؤكد على وجود الحرير الطبيعي  في الحياة التي كانت سائدة أن ذاك، فقد وجد ضمن أحدى مدافن المدينة التدمرية التابعة للملكة "زنوبيا" حرير طبيعي سوري الصنع، نسج على نول أفقي يدوي، كمثال النول الموجود في قصر العظم "بدمشق".
 * ماذا عن انفتاح الحرير الطبيعي خارجاً؟
**دخل "الحرير" في صناعة الأزياء العالمية، فنجد مثالاً "أوسكاتريانو" أشهر مصممي الأزياء في "أمريكيا"، بعام 91 ـ 92 ـ 93، قدر أن يروج "للبروكار الدمشقي"، ولانعدام وجود الثقة بيننا وبين "أمريكا" لوجود مشكلات سياسية واقتصادية، انقطعت الصلة معهم وصاروا يشترون "البروكار الدمشقي" عن طريق الخليج العربي مثل "دبي"، فنحن نبيعه إليهم وهم يشترونه من هناك.
*الاعتماد على هذه الصنعة، ما زال ملفتاً عند الدمشقيين؟
 **لا، فالقلة القليلة منهم ما زالت تعتمد عليها، وهذا عائد إلى العامل الاقتصادي الذي يعيشونه حالياً.
 
حول أعمال الفنان، قال السيد "محمد حسان الذهبي" تاجر شرقيات وأقمشة "بروكار": « "شيركو متيني" فنان مبدع بحق، حمل مسؤولية إغناء وتطوير وتحديث مهنة "البروكار الدمشقي"، باحثاً بإخلاص في إحيائها، كما لو أنه يحور منحوتة ما ويعنى بها كل يوم، حتى يبرز في معاملها لمسات تعبيرية مختلفة تزيد في جمالها وأهميتها، فحبه لهذه المهنة أوصله إلى مرحلة استطاع فيها أن يوظف الآلة الحديثة في خدمة عمله الفني، يطوره بدقة ويتابع التقنية الأصلية اليدوية للإنتاج مع التطور الآلي المعاصر، محافظاً على أصالة النوعية والنقوش والزخارف التي اتسمت بها منذ القدم، وكما قيل: «اعمل ما تحب، وأحب ما تعمل»، وهذا السر خلف تفوقه ونجاحه».       
ببلوغرافيا الفنان
تخرج "متيني" في كلية الفنون الجميلة "بالاتحاد السوفييتي" في مدينة "كيير" عام 1986، أقام دراسات عليا بالنسيج وتصميم الأزياء النسائية، عاد إلى "سورية"، وأكمل مشروعه في إحياء وتحديث "البروكار الدمشقي" بكل أنواعه ونقوشه العربية الإسلامية وما يقابله من منتجات الحرير.