أنماط العمارة الطينية في الجزيرة الفراتية (1)

كسار مرعي – الحسكة

لحضارة الجزيرة والفرات طابعها المستقل بذاته؛ نظراً لطبيعة الحياة فيها وتبعاً للموقع الجغرافي، إذ تعتبر المنطقة زراعيةً بامتياز وتكاد تخلو من السلاسل الجبلية باستثناء بعض الجبال الصغيرة، ما فرض نمطاً معمارياً خاصاً بها للتكيف مع متطلبات الحياة.

ولعب الطين دوراً بارزاً في مكونات البناء السكني؛ الذي امتد منذ عشرات آلاف السنين، وتحديداً عند ما استوطن الإنسان الأول في هذه المناطق، ثم تلت هذه الحقبة حقب كثيرة زمنيةٌ كثيرة، استمدت سبل النهوض بمقوماتها من حضاراتٍ بائدة.

يقول الدكتور "آزاد أحمد علي" في حديثٍ للمفكرة الثقافية عن هذا الفن: «يمكن تصنيف العمارة الطينية في الجزيرة الفراتية؛ بمجملها في إطار العمارة التراثية، على اعتبار أنه لم يتم بناء حضارة طينية حديثة على نطاقٍ واسع، أما تلك المشيدة حديثاً فقد بنيت بالطرق التقليدية، والتي استمدت أنماطها من الحضارات البائدة التي تعود إلى عصور موغلةٍ في القدم؛ والتي لم تعد قائمةً في يومنا هذا، إنما يتم الكشف عنها بواسطة الحفر والتنقيب الأثري، والجزيرة الفراتية ما هي إلا مصطلحٌ تراثي، تم اختياره للتعبير عن مجالٍ جغرافي للبحث ضمن سياقه التاريخي، والمقصود بالجزيرة الفراتية بحسب العديد من المؤرخين، تلك الرقعة الجغرافية الواسعة من بلاد الرافدين، ثم تم تحديدها وتوضيحها بعد دخول المسلمين إليها؛ وهي الأراضي الواقعة بين نهري دجلة والفرات، أطلق عليها الرومان فيما مضى اسم "ميزوبوتاميا"، ثم تحول اسمها إلى "جزيرة آقور"؛ أثناء دخول الإسلام إليها عام 17 للهجرة، ومنذ مطلع العهد الأموي برزت أهمية هذه الجزيرة، من النواحي الحضرية والاقتصادية والاجتماعية، وفي العصر العباسي تبلور استخدام مصطلح "الجزيرة الفراتية" عوضاً عن المصطلحات السابقة، لكن ما نود التركيز عليه هو المساحة الممتدة على كامل رقعة الجزيرة السورية، الممتدة على نحو 50 ألف كم2، والتي لها نفس مقومات الجزيرة الفراتية».

يتابع: «تشير المعطيات التاريخية إلى أن الجزيرة الفراتية تتسم بخصوصية وأولوية؛ الجذر الحضاري والعمراني للعالم بأسره، حيث ظهرت في ربوعها أولى المساكن الطينية، وتبلورت أولى التجمعات السكنية والقرى الأولى وبالتالي ظهور بدايات التحضر، فقد كانت المنطقة من البقاع الأولى على سطح المعمورة التي انحسر عنها الجليد؛ في الحقب الجيولوجية القديمة، وبذلك أصبحت المنطقة الأولى التي توفر فيها المناخ المناسب للحياة البرية والزراعية؛ فشكلت البيئة الطبيعية للإنسان الأول، حيث بدأت فعاليات الإنسان الاجتماعية منذ عشرين ألف سنة، ثم تشكلت التجمعات السكنية الأولى منذ 11 ألف سنة؛ في المرحلة النطوفية على ضفاف الفرات الأوسط، لكن قبل هذه الفترة بدأت فترة انتقالية منذ ما يقارب 200 ألف سنة، حيث حل إنسان "النينتندرتال" مكان "الهمو – اركتوس"، وكان "النينتندرتال" صياداً وجامعاً للثمار البرية مثل سلفه، إلا أنه كان أكثر تطوراً من الناحية الفيزيولوجية والحضارية».

يضيف: «انتشر إنسان "النينتندرتال" في كل مكان من الجزيرة، كما انتشرت آثار تلك المرحلة بغزارةٍ في كل الجزيرة السورية، تمثل ذلك في الأدوات التي اكتشفت مؤخراً مثل "المقاشط والمقاحف والسكاكين"؛ التي يعود تاريخها إلى 40 ألف سنة، ثم اختفى هذا الانسان لأسباب مجهولة وحل مكانه الإنسان العاقل، وهو أول من مهد الطريق لنشوء العمران والاستيطان، وبالتالي برزت الحضارات الجنينية الأولى في المنطقة، ثم تعاقبت تلك الحضارات وتدرجت طرزها العمرانية من أبسط الأشكال؛ إلى العمارة المتطورة في المراحل المتأخرة من تاريخ المنطقة، وعليه تكون العمارة الطينية سجلٌ يؤرخ لتسلسل وتعاقب الحضارات، كما أنها تعتبر الشكل الأساسي والوحيد لعمارة المنطقة، لذلك يبدو تسلسل تاريخ الحضارة مطابقاً لتسلسل تاريخ العمارة في هذه الرقعة المزدانة بالمواقع الأثرية، والتي كانت موطناً لممالك وإمارات ودويلات متعاقبة، مع العلم أن قوام هذه العمارة في كافة المواقع الأثرية هي مادة الطين، ولو أخذنا البيوت التي ظهرت في التجمعات السكنية الأولى كموقع "المريبط" على نهر الفرات، نجد أن البيت المتميز الذي افتتح به الإنسان تاريخ حضارته العمرانية؛ كان عبارة عن بيت دائري بجدرانٍ طينية يدخل في تكوينها الحجارة أو أغصان شجر الحور، وعليه يبدو أن تفاصيل عمارة هذه الإمارات والدول والممالك شديدة التشعب؛ نظراً للامتداد الزمني الطويل والانتشار الجغرافي الواسع، ومما يؤكد هذه الصعوبة وجود أكثر من ألف موقع أثري في الجزيرة السورية العليا، وهي تشكل جزءاً من الجزيرة الفراتية الأكبر والأوسع جغرافياً، وما هذه التلال إلا مراكز حضرية للإمارات والممالك والدويلات؛ التي مثلت حضارات المنطقة المتعاقبة على مر العصور السابقة».

وعن هذه الأنماط العمرانية يقول الباحث: «أخذت المنازل الأولى الشكل الدائري وكانت عبارة؛ عن منازل متلاصقة أو مفصولة عبر باحةٍ مشتركة، ويعتبر موقع الجرف الأحمر في أعالي ضفة الفرات شاهداً على أقدم تنظيمٍ اجتماعي عمراني في المشرق تم الكشف عنه، حيث اكتشف أن عمارة الموقع اتصفت بخصائص ومواصفات متقدمة نسبياً، فأقطار المنازل الكبيرة وصلت إلى 8 أمتار، وقد تم استخدام العديد من الأعمدة الخشبية لدعم الأسقف، وكانت الجدران في هذا الموقع مشيدة من الطين؛ على عمق مترين تحت منسوب  سطح الأرض، وفي موقع "المريبط" اكتشف عالم آثار ما قبل التاريخ "جاك كوفان"، عمارةً بدائية شكلت فتحاً جديداً في فهم تاريخ عمارة المنطقة والعالم، ففي حوالي عام 8300 قبل الميلاد ظهر بيتٌ كبير مستدير؛ بلغ طول قطره ستة أمتار، وهو مكون من حفرةٍ بعمق نصف متر وله حائط مدعمٌ بأوتاد متقاربة، وكان مغطى من الداخل بطلاء من الغضار، وبلغت سماكة هذا الجدار البدائي حوالي 10 سنتيمترات، وهو بمثابة جدارٍ صغير ومحفوظ بطول ثلاثة أمتار بشكلٍ جيد، وهناك دلائل تشير إلى أن الجدار الطيني؛ لم يكن يرتفع فوق مستوى الأرض خارج نطاق الحفرة، على اعتبار أن الطلاء ينتهي عند قمة الجدار، لذا يمكن التكهن أن الأقسام المخشوشبة من البناء، كانت هي فقط من يطفو فوق الحفرة الدائرية التي كونت المسكن، ومما يميز مجموع هذه البيوت هو التدبير المعتني بكل ما تحتويه الحفرة نفسها؛ من تدعيم الأسقف بالحجارة أو الخشب أو تلبيس الجدران بالغضار، ثم ما لبثت هذه الفنون المعمارية حتى تطورت وأخذت تتبع التطورات التي شهدتها المنطقة، والشواهد على هذه التطورات كثيرة وكبيرة وموثقة، من خلال ما تركته الحضارات المتعاقبة، والتي ما تزال شاهدةً حتى يومنا هذا».