هنا كان فلان يجلس وأمامه تلك النرجيلة القديمة يلعب بأوراق الشدة وحجارة الزهر، يرتشف كأس الشاي العصملي الثقيل، هنا مر الكثير ممن عايشوا جدران المقاهي القديمة في مدينة "اللاذقية" بكل ما تعني وتصور، تركوا على كراسيها الخيزرانية أجمل الصور والتعابير.

يقول الباحث "سجيع قرقماز" متحدثاً لموقع elatakia عن مقاهي "اللاذقية" القديمة: «تتميز المقاهي القديمة في "اللاذقية" بالتخصص بالنسبة لشاغليها، إذ تبدأ بالنادي العائلي والكازينو، مروراً بالمطاعم البحرية المتخصصة: "اسبيرو، رشو، لاكابان فينيسيا (هارون لاحقاً)، العصافيري".

أعمل في هذا المقهى منذ زمن، أحب العمل فيه وأحب كثيراً من يقصدنا، أغلب الآتين إلينا هم من كبار السن ومن رواد المقهى القدماء، نقدم لهم الشاي والقهوة والنرجيلة بنوعيها وكل ما هو موجود لدينا هو من قديم الزمان وأظن أن ما تغير ليس إلا بعض الديكورات والشخصيات لا أكثر

أما المقاهي تحديداً فكان هناك ثلاثة مقاه تعنى بالشباب أو الجيل الصاعد المثقف وهي على التوالي: البستان، والسويس (أغلق مؤخراً) والستراند (أغلق وأعيد افتتاحه بشكلٍ مختلف حالياً)، أما المقاهي الشعبية فكانت وما تزال ذات طابع شعبي جميل، في معظم أحياء المدينة، والأساسية منها في وسط المدينة فكانت متخصصة بشكلٍ ظريف: "قهوة الحرامية كشاشة الحمام، السوركة"، ويبدو أن بعض هذا التخصص كان صحيحاً، يضاف إليها "قهوة شيخ الشباب"، مقابل المرفأ (أعيدت بشكل آخر فيما بعد) ومنتدى الصليبة (طابوشة) وهما من أشهر المقاهي في "اللاذقية" إضافةً إلى مقهى "البديوي" في حي السجن».

من اخر مقاهي اللاذقية القديمة

يتابع "قرقماز" حديثه عن المقهى القديم وما ميزه في وقت من الأوقات: «كانت المقاهي القديمة في مختلف اتجاهاتها تلعب دوراً هاماً في الحياة الاجتماعية والثقافية السائدة آنذاك في "اللاذقية" كلٌ حسب موقعها، كما لعبت المطاعم والمقاهي التي كانت تزين كورنيش "اللاذقية" القديم دوراً كبيراً في لم شمل أبناء "اللاذقية" قبل أن تتوسع المدينة ويتوسع المرفأ قاضماً كل الكورنيش، أما أهم الذكريات من تلك الأماكن فهي سهرات رأس السنة حيث كان أبناء "اللاذقية" يعيشون تلك السهرات وكأنهم في بيتٍ واحدٍ، فالجميع ينتقلون من مقهى إلى آخر، ومن مطعم إلى آخر، وكأنهم عائلةٌ واحدة، بعيداً عما يحصل من تفاهاتٍ وتفجيراتٍ وإزعاجاتٍ كالتي نسمعها هذه الأيام».

في حين يقول الأستاذ "أنس إسماعيل" فنان مسرحي ومصور ضوئي عايش الكثير من تحولات "اللاذقية" التاريخية: «في مدينة صغيرة كاللاذقية كانت المقاهي تشكل البيت الثاني لعدد كبير من الرجال في مجتمع ذكوري صرف، وبمحض علاقات وتقاليد تفصل الرجال عن النساء ولكل عالمه الخاص ومملكته، فكانت المقاهي لتمضية الوقت الفائض عن العمل أو لتسكع العاطلين عنه، في أواسط الستينيات وبدخول التلفزيون (أسود – أبيض) انتشرت السهرات التلفزيونية في المقاهي العامة الشعبية، وبقيت أيضاً حكراً على الرجال وكان هذا ليلاً أما الفترات الصباحية أو بعد الظهر فكانت لاحتساء المشروبات الساخنة أو الباردة وللعب الشدة (الورق) وتدخين النارجيلة بنوعين حصريين وهما: البلدي والعجمي أو طاولة الزهر أو المنقلة وكانت أكثر الألعاب شعبية هي "الضامة"، أما اليوم فلم يعد من هذه المقاهي إلا ما ندر وما تبقى أحدث تعديلات وتغييرات جعلته مختلفاً عن السابق، وتحولت الفئة العمرية التي كانت ترتاد المقاهي من شريحة الرجال متوسطي ومتقدمي العمر إلى الشريحة الشبابية التي نضع الكثير من التساؤلات حول كثافة وجودها في المقاهي العامة والشعبية».

الاستاذ سجيع قرقماز

"محمد القاضي" أحد القاصدين الدائمين للمقاهي القديمة، يقول: «بعد كل هذا العمر الذي وصلتُ إليه أرى أن المقهى تحول عن سابق عهده، كان بسيطاً بكل ما فيه، أناسه ومرتادوه بسطاء، الجميع يحب تلك الأجواء المميزة، صوت مخنوق من تلك الإذاعة القديمة، وصورة باهتة لتلفاز قديم تتقلب صورته، وكأس من الشاي "العصملي" المغلي جيداً، كل تلك الأجواء وغيرها كانت في مقهانا القديم، أما اليوم فكل شيء قد تغير، فالراديو مات منذ زمن، والتلفاز ما عاد نفسه التلفاز ولا كأس الشاي المغلي جيداً بقي صانعه "أبو اصطيف" أمام غازه يغليه، كل شيء تغير».

في حين يقول "طارق أحمد" أحد العاملين في أحد المقاهي القديمة في منطقة "الشيخ ضاهر" القديم: «أعمل في هذا المقهى منذ زمن، أحب العمل فيه وأحب كثيراً من يقصدنا، أغلب الآتين إلينا هم من كبار السن ومن رواد المقهى القدماء، نقدم لهم الشاي والقهوة والنرجيلة بنوعيها وكل ما هو موجود لدينا هو من قديم الزمان وأظن أن ما تغير ليس إلا بعض الديكورات والشخصيات لا أكثر».

الاستاذ انس اسماعيل

وفي كتاب "جبريل سعادة" والذي يحمل عنوان "محافظة اللاذقية"* الصادر في بداية ستينيات القرن العشرين ورد ذكر بعض مقاهي تلك الفترة، ونقرأ منه : «أما المقاهي المنتشرة على الشاطئ فيكسوها البحر بحلة قشيبة من الجمال، وأهمها "مقهى العصافيري"، و"اسبيرو"، و"البطرني" المطل على المرفأ، ومقهى "الشاطئ الفضي" و"بار فينيس".

ومن بين المقاهي التي ليس فيها مطاعم نذكر: "مقهى الطابيات، ومقهى شناتا، والطاحونة الحمراء، والمقاهي العديدة الواقعة في ساحة الشهداء، والمقاهي الصيفية عند مدخل المدينة».

المراجع:

  • كتاب محافظة اللاذقية- جبرائيل سعادة- وزارة الثقافة والإرشاد القومي- سلسلة بلادنا 1- ص 103.