قال لي أحد المعجبين بالأدب الساخر الإدلبي: «تستحق بلدكم أن تكون عاصمةً لأدب السخرية في سورية»، وأضاف مازحاً: «إنني أعتقد جازماً أن أرواح "جحا"، و"ابن الرومي"، و"الجاحظ" تختلط بهوائكم، وتمنح أدبكم خفة الدم، فنجده مطبوعاً بالماركة الإدلبية غير القابلة للتقليد».

لا أسوق هذا الكلام مفاخراً، لكنني أجعله مدخلاً للحديث عن الشعر الساخر "الحلمنتيشي" في "إدلب"، وأول ما نلاحظه أن هذا الشعر ظلَّ بعيداً عن الاهتمام، بينما اتجهت الأنظار إلى القصة الساخرة.

وكلمة "الحلمنتيشي" جاءت من القاموس الشعبي، استعملها الناس للدلالة على الشعر الضاحك الذي يقول للأعور أعور بعينه.. أي إنّ لهذا الشعر أساسين: السخرية والجرأة، والسخرية لا تنجح إلا إذا استعمل صاحبها أسلوباً بسيطاً. يقول "محمد شيخ علي" في قصيدة عنوانها "ديمقراطية":

سألتُ وزتي: هل تحبين أن آكلك مشويةً أم مقلية؟

فصمتت تاركة لي حريةَ الاختيار

ألم أكن ديمقراطيا؟!

وقد يختلف معي بعض المهتمين بالمشهد الثقافي الإدلبي في أهمية الشعر "الحلمنتيشي"، ولكنني في الدفاع عنه أذكر ما يلي:

1ـ لاحظتُ من خلال الأمسيات الشعرية التي تقام عندنا أنّ بعض شعرائنا قد يقرأ على استحياء قصيدة "حلمنتيشية"، فإذا بحياة جديدة تنبعث في الصالة.. تصحو العيون الناعسة، وتفرقع الضحكات، وتصفق الأيدي، وتصبح القصيدة الخجولة سيدةَ الأمسية، وقد يطلب بعضُ الحاضرين من الشاعر نسخاً من قصيدته هذه مع أنهم لا يرمون السلامَ على العشرات من دواوينه الجادة التي تتكدَّس في واجهات المكتبات!

2ـ تحوي القصائد "الحلمنتيشية" تعبيراً عفوياً صادقاً عن المسكوت عنه في حياتنا، حياة المحافظة والوطن، فالشعراء يكتبون هذا الشعر كـ"فشة" خلق غالباً، أي حينما يكون الشاعر في لحظة توتر قصوى ينسى فيها رهبة الرقابة، وينسى أيضاً الاهتمام بتزويق الأسلوب الذي يؤدي إلى التكلّف.

3ـ قد يستخفُّ بعض المتابعين للأدب في محافظتنا بهذا الشعر أو يتجاهلونه، لأنّه قليل الكم.. أي لا تتشكل منه ظاهرة فنية، ولكنْ إذا علمنا أن غير المعلن منه يفوق المعلن بكثير ألا يكون من الأحسن أن نبحث عن أصحابه، وندرس قصائدهم بدلاً من التجاهل والاستخفاف؟

أول من فتح الباب أمام هذا الشعر– كما أعلم– "حسيب كيالي"، فهو صاحب ريادة في هذا المجال إضافة إلى ريادته في القصة الساخرة، وقد سار بعده في هذا الطريق بعض أدباء المحافظة، ولكلٍّ منهم خصوصيته في الرؤيا والأسلوب. من هؤلاء: "محمد شيخ علي"، "عبد الجبار كيالي"، "محمد نور قطيع"، "د. صالح الرحال"، صاحب المقال، وله مخطوطة بعنوان: "سباق إلى الخازوق".

ولعل إقبال الأدالبة على الشعر "الحلمنتيشي" يعود إلى قلّة المسام في جلد مدينتهم الصغيرة وأريافها، وكثرة الرقابات التي يعاني منها أصحاب الوجع، لهذا يجدون في هذا الشعر متنفساً، وتفريغاً لصرخاتهم المكتومة. يقول د. صالح الرحال في أحد المديرين:

"مديرٌ لامعٌ محروسْ/ بأهل الخير والناموسْ

يشدُّ الأزرقَ الكحلي/ ويمشي مشيةَ الجاموسْ

فينقل ذا مباغتةً/ ويخصم راتبَ المنحوسْ".

أمّا موضوعات هذا الشعر فهي متنوعة تحمل أطيافاً سياسية، واجتماعية، وشخصية.. حتى إنني سمعتُ نماذج منه في البندورة التي كسدت ذات يوم، وفي سلخ لواء اسكندرون!

وقد نجد فيه تصويراً للون خاص من المعاناة.. لونٍ يدغدغ الخواصرَ بالضحك رغم حالة العذاب المختفية وراء الصورة، فالشاعر "صلاح الدين كيالي" كان منذ عدّة عقود من الزمن معلماً في قرية "إبِّين" التابعة لمحافظة "حلب"، ولم يكن في هذه القرية يومئذ سيارات تنقله مباشرة إلى الشهباء، بل كان يقطع الطريق إليها على مراحل مستخدماً أكثر من نوع من وسائل النقل، وقد اضطر ذات يوم أن يركب من "إبين" إلى "دير الجمال" جحشاً، ولكنْ هل كان الجحش قادراً على الحمل؟

"إلى دير الجِمال ركبتُ جحشي/ كخفَّاشٍ يطير بغير عشِ

أحاذر إنْ وقعتُ اليوم عنه/ فقبري لا أجاوزه ونعشي

"زعرٌّ" قلتُها لأثيرَ فيه / حماساً علَّه يمشي فأمشي

فساختْ منه أربعةٌ بأرضٍ/ وطارتْ منه شهنقةٌ بدفشِ".

وأما أسلوب الشعر "الحلمنتيشي"، فقائم على قاعدة السهل الممتنع، ويمكن أن نتحدث فيه عن الجوانب التالية:

1- الذكاء في عرض اللقطة الساخرة التي يلتقي فيها المضحك والمبكي، وبعضهم يفضِّل هنا كلمة الرشاقة أو البراعة. لقد سلَّط "محمد شيخ علي" الضوء في قصيدته "المنحوس" على رجل يكاد يختصر في معاناته الخاصة معاناة أبناء جيله، ففي يوم ختانه وقع الانـفصال، وفي ليلة عرسه عَبَر اليهود من القنال، ولما زار الكويت باحثاً عن عمل حلَّ بها النكال إلى أن يقول:

"وعرفتُ مسؤولاً فقيل أُقيلَ/ ولقد عرفت آخر فاستقالْ

إن عشتُ عاماً آخراً فلربما حاض الرجال، ولربما تلد البغالْ".

2- الصورة الكاريكاتيرية: أداة هامة جداً من أدوات هذا الشعر يرسمها الشاعر بالكلمات، ويستطيع بها أن يخاطب حواس القارئ، ويثير خياله من خلال تلاعبه بملامح الأشخاص، والأشياء والحالات، وقد تبدو هذه الصورة مبالغاً فيها، ولكنَّ المبالغة ضرورية في السخرية. وصفَ أحد الشعراء الأدالبة رجلاً مفتوناً بالمظاهر، حتى إنّه كان معجباً بحذائه الضخم، الغالي الثمن، المستورد من دولة أجنبية:

"تمشي كنابليون في فخرٍ به/ فاسمعْ ضلوعَ الأرض كيف تُثارُ

ساقاه مدخنتان تغرق فيهما/ أذناك حتى لا يراك نهار

أغناك عن لُبْسِ الثياب جميعها/ افرحْ، فإنَّ ثيابك البسطارُ".

3- سهولة الألفاظ التي تكرج في النطق ككرج الماء في الحلق، وهذه الألفاظ يختلط فيها الفصيح السهل، بالدارج، بالكلمات العامية من أصل عربي أو أجنبي، وكأن الكلمة الشعبية المطرودة من صفحات الأدب الرفيع تستعيد شيئاً من اعتبارها في هذا الشعر. قال "حسيب كيالي" متشفياً بسقوط أحد النواب الذين دخلوا البرلمان دون جدارة في الأربعينيات والخمسينيات:

"قولوا لأعور "إدلب" يهنيكا/ إنَّ المجالس لم تعد تؤويكا

لم يبق في هذه البلاد مبرنَطٌ/ تعطيه ماءَ الوجه إذ يعطيكا".

4- يوظف بعض الأدباء مضمون هذا الشعر توظيفاً رمزياً عميقاً، ويستعملون في قصائدهم أسلوب النقلات السريعة، ويقومون ببناء القصيدة على شكل مقاطع يضعون لكلّ منها رقماً أو عنواناً، فيشعر القارئ أن الشعر "الحلمنتيشي" يمكن أن يفتح صدره لبعض معطيات الحداثة رغم ملامحه الشعبية الأصيلة، ونحن نجد أكثرَ من شاهد على هذه السمات عند "محمد شيخ علي".

أخيراً.. إن الشعر الساخر في "إدلب"- رغم أهميته وتأثيره- لا يستطيع أن يُسمع صوتَه للقارئ خارج المحافظة، فليس لدينا منه إلا مجموعة واحدة مطبوعة للشاعر "محمد شيخ علي" هي "مقلوب البكاء" أمّا الآخرون فلديهم قصائد متناثرة أو مخطوطات نائمة في دروجهم لا يستطيعون نشرها على حسابهم، كما أن جهات النشر لا تُرحِّب بهذه النوعية من الشعر، وهكذا فالشعر "الحلمنتيشي" بحاجة إلى قصيدة "حلمنتيشية" تتحدث عن حاله.