عرفت "الرقة" في بدايات القرن التاسع عشر هجرات لقبائل بدوية، جاءت من مناطق متعددة من الجزيرة العربية، وكانت تلك القبائل قد اعتادت نظام معيشة معين في حياتها، يعتمد في أغلبه على الاستيطان في الأرض التي تتوفر فيها مراع لمواشيهم، حتى لو تطلب هذا الأمر بالنسبة لهم استخدام القوة.
وكان شعراؤهم يوثقون تلك الغزوات في سبيل كسب المراعي بقصائد عاشت زمناً طويلاً، فعند وفودهم أرض الجزيرة السورية، "الرقة" أنموذجاً، اصطدمت رغباتهم تلك بقبائل نصف بدوية، دافعت عن أراضيها ما استطاعت لذلك سبيلا.
وقد حاول البدو مرة أخرى غزو هذه المنطقة بقيادة الشيخ "عبيد بن غبين"، حيث يصور شاعرهم تلك الأرض بأنها صارت عصيةً على شيخ القبيلة التي تقطنها، وأنها تريد سيداً يستطيع ترويضها، حيث يقول: (البيضا يابنت هنوف عيَّت على الشايب "بدر" تبي لها ذيبٍ عـرج يـفلح سهلها من حدر) و"بدر" هو شيخ قبيلة "البقارة" في تلك الفترة، أما الذئب الأعرج فالمقصود به هو الشيخ "عبيد بن غبين"، الذي كان يشكو من عرج في إحدى قدميه، وكان يستخدم عكازاً لمساعدته في مشيته، ولم يفوِّت شاعر قبيلة "البقارة" تلك القصيدة التي حاول بها البدو النيل من شيخهم، إذ ردَّ عليه قائلاً: (البيـضا يابنت هنوف حلوٍ.. طويلٍ... باعها "عبيد" لا تاكل هوى..... والله ما تفلح قاعها). وفي هذا الرد ما فيه من الظرافة التي تكسر حاجز رهبة الحرب التي كانت غيومها تتلبد في السماء، بمحاولة كل طرف السيطرة على تلك البقعة الخصبة من الجزيرة السورية، والتي عرفت باسم "البيضا بنت هنوف"
وحول بعض من هذه الغزوات التي تم توثيقها شعراً، التقى موقع eRaqqa بتاريخ (5/3/2009)، الأستاذ "غسان الصطاف"، الذي أتيح له في بداية حياته، التعرف على بعض أبطال تلك القصص، حيث حدثنا عن مساجلة دارت بين بعض شعراء البدو، وبين نظرائهم من بدو آخرين، أو قبائل نصف بدوية سكنت المنطقة.
وكانت هذه المساجلات الشعرية تدور حول أرض خصبة يقال لها "البيضا"، إذ يقول: «"البيضا" هي أرض ونبع يقع في الجزيرة السورية كانت محل تنافس بين قبائل "البقارة"، و"شمر"، و"الفدعان"، وكانت المناوشات الحربية تحدث بشأنها دائماً، فكل من يشعر من تلك القبائل أن لديه القوة الكافية، والحاجة الماسة للأرض، كان يحاول السيطرة عليها، وهذه الأرض تسكنها قبيلة "البقارة" حالياً، فعندما رغب فيها لخصبها شيخ أحد القبائل البدوية الشهيرة التي استوطنت المنطقة، وهم قبيلة "الفدعان" التي استلم مشيختها "آل المهيد"، صادف أن كانت تسكنها في تلك الفترة قبيلة بدوية أخرى هي قبيلة "شمر"، فبعث شيخ "شمر"، "العاصي الجربا"، الذي عندما علم برغبتهم تلك، أرسل بقصيدة للـ"فدعان" يقول فيها:
("البيضا" يا بنت "هنوف"، عـنقها طويلٍ يا محلاه
لي جيت مصوت بالعشا، عن ديرتي يـنزح وراه
هذي مـا هي ديرتو، ديرتو "حمـص" و"حـماه")
فهو يشبهها بالفتاة الجميلة، ويخاطب "آل المهيد" الذين اشتهر شيخهم "مجحم بن مهيد" بأنه "مصوت بالعشا"، أي يقف مساءً، وينادي بالعرب أن العشاء جاهز، وهذا حاله كل يوم لشدة كرمه، ويتابع شاعرهم قوله بأن هذه الأرض ليست أرضهم، وعليهم أن يرجعوا من حيث جاؤوا مهاجرين هجرتهم الثانية، من بادية "حمص"، و"حماه"، حيث من المعلوم أن هجرتهم الأولى كانت من الجزيرة العربية طلباً للأرض الخصبة، وهروباً من نزاعات قبائلية».
ويتابع "الصطاف" حديثه عن ردة فعل قبيلة "الفدعان"، عند وصول القصيدة إليهم، والتي كانت تخفي بين أسطرها تهديداً ووعيداً، فيقول: «أغلب البدو هم على السليقة شعراء، حيث أكسبتهم حياتهم في الصحراء نقاوة في اختيار مفرداتهم، فأجادوا سبكها بحيث تؤدي المراد بأقل العبارات، حيث البلاغة في الإيجاز، فعندما سمعوا قصيدة "ابن الجربا"، شيخ "شمر"، ردوا عليه بلسان أحد شعرائهم، حيث قال:
(البيضا يا بنـت هـنوف "حاكم" يشـمّ نـهودها
لي قـدَّر الله والـكريم يا"لـعاصي" مـا تـعودها
جزيرتـك صـارت طمـوح، توشخلت قـعودها
إن طعتـني خلها تروح، واسلم على باجي زودها).
وفي هذا الرد نرى وبوضوح تلك اللغة السليمة النقية، التي تأخذ قارئها أو مستمعها، إلى ما يراد من ورائها بأيسر السبل وأسهلها، فلقد شبه تلك الأرض بالكاعب الحسناء، حيث سينالها شيخهم "حاكم"، وإن قدَّر الله ـ والكلام لشاعر "الفدعان" ـ لن يظل فيها شيخ "شمر"، "العاصي الجربا"، فلقد أوشك زمن بقائهم فيها على نهايته، وإن سمعوا نصيحته فعليهم أن يتركوها لهم، حتى يسلموا على بقية من أرض لهم، وما نلاحظه في هذه القصائد سيطرة التعابير التي تلتصق بالبيئة كثيراً، وهي برغم بساطتها تدل على درايةٍ عالية بمعطيات تلك البيئة الصحراوية».
ويختتم ضيفنا الأستاذ "غسان الصطاف"، حديثه عن بقية تلك المساجلة الشعرية، بذكر بعض الطرافة التي كانت تسود تلك الأجواء المشحونة برياح الحرب، إذ لا تخلو تلك القصائد من بعض الألفاظ الطريفة، إذ يقول: «وقد حاول البدو مرة أخرى غزو هذه المنطقة بقيادة الشيخ "عبيد بن غبين"، حيث يصور شاعرهم تلك الأرض بأنها صارت عصيةً على شيخ القبيلة التي تقطنها، وأنها تريد سيداً يستطيع ترويضها، حيث يقول:
(البيضا يابنت هنوف عيَّت على الشايب "بدر"
تبي لها ذيبٍ عـرج يـفلح سهلها من حدر)
و"بدر" هو شيخ قبيلة "البقارة" في تلك الفترة، أما الذئب الأعرج فالمقصود به هو الشيخ "عبيد بن غبين"، الذي كان يشكو من عرج في إحدى قدميه، وكان يستخدم عكازاً لمساعدته في مشيته، ولم يفوِّت شاعر قبيلة "البقارة" تلك القصيدة التي حاول بها البدو النيل من شيخهم، إذ ردَّ عليه قائلاً:
(البيـضا يابنت هنوف حلوٍ.. طويلٍ... باعها
"عبيد" لا تاكل هوى..... والله ما تفلح قاعها).
وفي هذا الرد ما فيه من الظرافة التي تكسر حاجز رهبة الحرب التي كانت غيومها تتلبد في السماء، بمحاولة كل طرف السيطرة على تلك البقعة الخصبة من الجزيرة السورية، والتي عرفت باسم "البيضا بنت هنوف"».