التراث هو كل ما تركه السلف للخلف، من عادات وتقاليد وقِيَم وحِرَفٍ ومهنٍ وألعاب وأمثال وحكم، فهو الرصيد الذي يوضح ويشكل هوية المجتمع ويعزز وجوده، ويؤكد جذوره الحضارية والإنسانية، ويحفظ فكرة ما كان عليه آباؤنا وأجدادنا، وهناك الكثير مما تركه لنا أسلافنا، في مختلف المجالات، ومنها الألعاب التراثية، حيث كانت تشكل هذه الألعاب في يومٍ من الأيام، المتنفس الوحيد لآبائنا وأجدادنا من قبلهم، خاصة في الريف، الذي تنعدم فيه وسائل الترفيه والتسلية، فلا يجدون ملاذاً لهم سوى هذه الألعاب الشعبية، التي توارثوها عن أسلافهم، ليجابهوا بها، رتابة نهارهم ووحشة ليلهم، وللأسف فإن الألعاب الشعبية التي كانت سائدة في "الرقة"، وفي المنطقة الشرقية عامة، لم تحظَ بما يكفي من البحث والدراسة والتوثيق، وللوقوف على بعض هذه الألعاب، فقد التقى موقع eRaqqa بتاريخ (14/11/2008) الأستاذ "أحمد الظاهر"، المهتم بتراث وتاريخ "الرقة" والمنطقة الشرقية.

وبسؤاله عن الألعاب الشعبية، التي كانت منتشرة في محافظة "الرقة" أجاب قائلاً: «في الحقيقة إن الألعاب الشعبية القديمة، ما هي إلا مرآة تعكس ملامح الحياة الاجتماعية وثقافتها، بكل ما تتصف به من بساطة وود وتمسك بالقيم والعادات الأصيلة، وقد مارس الصبية سابقاً في "الرقة" العديد من الألعاب، وكانت أحد أهم صور التواصل الاجتماعي بينهم، واللعبة لم تكن مجرد وسيلة لهو فقط، بل كانت وسيلة تدريبية وتثقيفية وتعليمية وتربوية، وقد انتشرت الألعاب في "الرقة" قديماً انتشاراً واسعاً، حيث كانت تمارس في مواعيد ومواسم وأوقات معينة، وبعضها يمارس في الليالي المقمرة، وقد كان للصبيان نصيب الأسد في الكثير منها، ومن أهم الألعاب التي كانت سائدة في "الرقة" آنذاك، هي لعبة (شظيَِّظْ راح)، وقد كانت من ألعاب المحببة للأطفال من أهالي الريف، وهي لعبة من ألعاب الليل، ولا يمكن ممارستها في النهار، كما أن فكرة هذه اللعبة بسيطة جداً، حيث يجتمع مجموعة من الصبية، في ساحة خالية، وذلك بعد أن يحلَّ الظلام، ثم يختارون من بينهم شخصاً يلعب دور الحكَم، حيث يمسك هذا الحكم بيده عوداً صغيراً من السنديان، لا يتجاوز طوله /30/سم، ويسمى هذا العود "الشظَّاظ"، ثم يلقيه بعيداً في الظلام، لمسافة قد تصل إلى العشرين متراً، وهو يردد: «شظيِّظ راح، وين ولَّى ووين راح؟»، فيبدأ الصبية بالركض باتجاه المكان الذي رمى به المحكم العود، ومن يجده أولاً يعتبر هو الفائز باللعبة، وتعتمد هذه اللعبة على عدد من الشروط التي يجب توافرها باللاعب، حتى يتمكن من الفوز، وأهمها الجرأة والشجاعة، حيث أن البحث عن عود "الشظَّاظ" الصغير في الظلام الدامس، أمر قد يبعث على الخوف أو الرهبة لدى الكثير من الأطفال، الذين تراهم لا يشاركون في هذه اللعبة، خاصة مع وجود القصص الشعبية، التي يسمعها الأطفال، والتي تحكي عن ظهور الجان في الأماكن المظلمة، ناهيك عن خوف بعض الأطفال من وجود الحيَّات والعقارب، التي تنتشر بكثرة في الريف، ومن شروط الأخرى لها، السرعة والدقة وقوة البصر، فنادراً ما يشارك الأطفال الذين يعانون من ضعف في البصر، في هذه اللعبة، ومن فوائد لعبة "شظيَّظ راح" أنها تدرب الأطفال على مهارات جسدية وذهنية كثيرة، كما أن لها الكثير من الفوائد، فهي بجانب أنها مسلية وممتعة أيضاً، تساعدهم على التفكير والابتكار وتنشيط الذاكرة ويقظة الذهن، كما أنها تكسبه العديد من المهارات والخبرات، كالصبر والمثابرة أثناء ممارسة اللعب وتعوده على الجرأة وعدم الخوف والإقدام، وتلك تعتبر من الصفات النبيلة التي يكتسبها الصبي في بداية حياته وتترسخ لديه مع الأيام، وعن سبب استخدام عود السنديان، كأداة أساسية في اللعبة، هو وزنه الثقيل، الذي يميزه عن باقي الأخشاب، حيث يسمح ثقله النسبي من قذفه لمسافة بعيدة، ويمكن الاستعاضة عنه بعود الخيزران، الذي يفي بالغرض في حال عدم توفر السنديان، وقد انقرضت هذه اللعبة تماماً، وذلك منذ ما يزيد عن العشرين سنة، سواء أكان ذلك في الريف أو المدينة، وذلك بسبب انتشار الكهرباء، وما رافق ظهورها من ظهور العديد من وسائل الترفيه الأخرى، بالإضافة لظهور عدد من الألعاب الجديدة، التي ساعد على ظهورها وجود المدارس التي استحدثتها الدولة، ككرة القدم مثلاً».

ومن الألعاب المشتركة، التي يلعبها النساء والرجال على حدٍّ سواء، هي لعبة "الفنجيلة"، وتكون بإخفاء خاتم في فنجان، من قبل أحد الفريقين المتباريين، ويتراوح عدد الفناجين بين سبعة أو تسعة أو أحد عشر فنجاناً، ويقع على عاتق الفريق الخصم مهمة اكتشاف في أي فنجان يوجد الخاتم المخفي

ويضيف "الظاهر": «ومن الألعاب التي انتشرت بين الأطفال، وهي حديثة العهد نسبياً، حيث عمرها لا يزيد عن الخمسين سنة تقريباً هي لعبة "التلفون"، وهي من الألعاب التي وصلت إلى "الرقة" وريفها من خلال بعض الرقيين الذين، سافروا لبعض المحافظات السورية الكبرى، كمدينتي "دمشق" و"حلب"، وهي لعبة سهلة وبسيطة، حيث يصنعها الصبيان وتمارس بواسطة لاعبين، وطريقتها أن يأتي الأطفال بعلبتين من علب الكبريت الفارغة، ويعملان ثقباً في كل علبة، ثم يربطان سلكاً معدنياً طويلاً في الثقبين، ويمسك كل لاعب بطرف، ثم يأخذ كل لاعب بالجلوس في مكان معين يبعد عن الثاني بما يتناسب مع طول السلك، ويضع اللاعبان علبة الكبريت عند أذنيهما ويأخذان بالتخاطب مع بعضهما».

لعبة المنقلة

وعن أهم الألعاب الشعبية التي كان يلعبها الشباب والرجال في الماضي يقول"الظاهر": «إن من أهم الألعاب التي كان يمارسها الرجال سابقاً، وما زالت موجودة إلى الآن، هي لعبة "البويته" أو "المنقلة"، وهي من الألعاب الثنائية، التي تُلعب من قبل شخصين فقط، والأداة التي تستخدم في هذه اللعبة تدعى "المنقلة"، وهي عبارة عن طاولة، مصنوعة من الخشب، وهي بطول /70/ سم وعرض /20/سم تقريباً، وتفتح وتغلق تماماً كطاولة الزهر، وهي تتألف من أربعة عشر حفرة، بحجم متناول أصابع اليد الواحدة، وهذه الحفر متقابلة ومتوازية، سبعة بسبعة، وفي كل حفره/7/ حصيات صغيرة الحجم، ومن يجمع من المتباريين أكبر عدد من الحصى، يكون هو الفائز وتتم اللعبة بنقل الحصى، نقلة نقلة من حفرة لأخرى بالتسلسل، ولا تزال هذه اللعبة، من الألعاب التي لها شعبية كبيرة في ريف "الرقة" والمنطقة الشرقية، وهي حاضرة بقوة في مضايف شيوخ القبائل والعشائر في المحافظة، وأغلب الذين يلعبون "المنقلة" هم من كبار السن».

وعن أهم الألعاب المشتركة، بين الرجال والنساء، يحدثنا "الظاهر": «ومن الألعاب المشتركة، التي يلعبها النساء والرجال على حدٍّ سواء، هي لعبة "الفنجيلة"، وتكون بإخفاء خاتم في فنجان، من قبل أحد الفريقين المتباريين، ويتراوح عدد الفناجين بين سبعة أو تسعة أو أحد عشر فنجاناً، ويقع على عاتق الفريق الخصم مهمة اكتشاف في أي فنجان يوجد الخاتم المخفي».‏

ويبقى أن نشير أخيراً، إلى أن توثيق الألعاب الشعبية القديمة في محافظة "الرقة"، مهمة تقع على عاتق الباحثين في مجال التراث والتوثيق، ويجب أن تأخذ حقها من الاهتمام والمتابعة، كي لا يأتي اليوم الذي لا يبقى لهذه الألعاب حتى أطلالاً، تقف عليها الأجيال القادمة.