قبلة خرساء لـ”سوزان خواتمي”
د.ماجدة غضبان المشلب
- في حضور يستمد يأسه وبأسه من الشخوص يتحرك القلم المقترض بديلا للوحة المفاتيح وبقدرات استثنائية لأنامل أنثوية دقيقة راسما ما بين الميتافيزيقيا والوجود وتناثر الحروف والمعنى حدودا هلامية لتتابع حياتي رتيب يبدو هائما ملعونا بسطوة ريح مزاجية تفيض عتمتها حزنا وفجرها اشباحا مستغرقا في شهيق لا يتناقض مع معجزة الحياة ذاتها وهو يحل كإعصار محكوم بميقات وأسوار على صفحات سوزان خواتمي في مجموعتها القصصية “قبلة خرساء: صوت يصعد شجر الحكاية”.
تبتعد كثيرا الى ما خلف الزوايا ومنحنيات الواقع وخارج فضاء يتحرك فيه الابطال يصنعون لتاريخهم علبا من ورق سرعان ما تنفتح أمامنا على حقول خصبة ناثرة قطافها دانيا لمن ودّ أن تمتزج عيناه بسمات اللوحات المرسومة بدقة عالية لا تخلو من حرفية وإتقان… إنها خواتمي التي تضعك أمام وجوه تحملك مسؤولية تشييد ملامحها بنفسك لتكون أنت أو غيرك بدل من كانوا في “خرائط الغياب” و”مواء” و”نعي فاضلة”.. و…. وهي عناوين القصص القصيرة التي ضمتها مجموعتها المكونة من سبعة عشر لونا مستقبلة اضافات القاريء المتغايرة و الواسعة الطيف.
هي لا تعتمد إحكام غلق الباب خلفك وأنت تدلف حقولها طوعا، بل تدعك مذهولا بين الانصعاق من رؤية نفسك في مرآة الحقيقة وبين تصديك لانعكاس ذاتك على السطوح الصقيلة المحيطة بك حيث لا هروب من جدرانك إلا لداخلك من خلال اجتياز مجموعة قمم وتضاريس حادة الزوايا والمنعطفات قد وهبها ريع القاصة حصاد غمام من خطوب ونيازك يحتشد بها فضاؤها مجهولة المصدر ومرعبة بلانهائية سيرها الذي لا ينتظر انطفاءه ليغيب أبدا.
المرأة بالطبع كانت في البيوت المغلقة على صمتها تحبك دروبها طائعة ومخاتلة لنسيج مجتمعي غاية في التعقيد لا يضعها بين مدخل وآخر بل يأسرها على سكة اقيمت لقطار لابد له من السير راضيا مرضيا عليه أو الانحراف حيث لا نهاية مفاجئة بين قوسي نافذة قتيلة لم تعد تفتح الا على جدار اسمنتي أخرس.
في “أقلب أوراقهم مثل شمس تتلصص” لا يمكنك العثور على كل الشمس ولا على بقايا إشعاع منها بل تتيه بين غروب وشروق وعتمة وضياء إذ تتبادل الأم وابنتها حوارا أشبه بالجدل بين الرحيل والمكوث بين الموت والحياة الأبدية وهو جدل يصطحبك حتى النهاية كهبة الارتماء في أحضان غرفة أو هوة فضاء مرعبة سيان أن وجدت أو لم تكن على الإطلاق.
تنحسر القوانين الصارمة لمجتمع يرمم صدع الصمم لما قد يصدر من “مجرد ظاهرة صوتية ” وستائر معتمة لما قد يضيء من شمعة المرأة أو أمل الطفلة وبين هذا الطريق المبتديء توا وذاك المنتهي قريبا وحقيبة سفر حائرة أين عساها أن تستقر لرجل أشبه بالذكرى ترسم المباغتة أمام دهشتك الكثير من علامات الاستفهام.. دون تدوين سؤال أو اقتراف إجابة وإن كان قلم خواتمي قد عرف من أين للينابيع اكتناز عذب المياه.
أما في “نعي فاضلة” فلها من الجرأة أن تضع الموت على طاولة نقيضه لتجد نفسك أمام جنازتك وهي تسير محمولة على الأكتاف وبعض ممن أحببتهم يفكرون في ثقل زمن المراسيم وهو ينقل خطاه بحزن شديد لا يتسق مع لهفة الأحياء المتسارعة النبض لمواصلة حياتهم بعد موتك وبنهم أشد وكأنك لم تعش وتمت إلا لتذكي نار الرغبة في نفوس انطفأت جذوتها قبل رحيلك.
ولا تنسى خواتمي أن تجعل الرجل في محل المتشوق الذي يسرقه الانتظار لجماع الجارة عما يقتضيه الغطاء الاجتماعي من نفاق والمرأة في تابوت الرحيل غير مأسوف عليها لتشكل ثاني حلقة داخل المجموعة القصصية لسلسلة طويلة من فولاذ قيود الأنثى ضاربة في عمق أرضية بنايات شرقية متآكلة عفنة تفتقر الى سرعة حركة ما يحيط بها على كوكب اسمه الأرض.
وتواصل في “ثلاثة ألوان لحكاية بلهاء”الرص ذاته لبناء متين أساس لبنته الصوت البشري المتصاعد وبنبرة أشد حتى ليبدو أحيانا أشبه بالصراخ الذي يطلقه العراء عند قدمي مخبولة عاجزة تحتضن قبر أبيها لتنساب حكايتها بين أوهام عشق وملهى للرقص وملجأ طفل لقيط وإصابة بالعجز جراء غرز خنجر قانون سلطة الذكر وهو يجز ما تبقى لجسدها من قدرة على الحركة حتى تجدها منخورة الأسنان تمد ساقيها كبهيمة تنظر الى البشر من ثقب حظيرتها في قبو أجاد به القانون نفسه كبعض فضلات مما ورثت عن والدها.
الحيرة التي تفيض بحارا هائجة متوجة بطل قصة “امرأة لا تبكي” هي ذاتها التي تلجم فاها كان يحتج قبل هنيهة متأملا في الوديان القاحلة صدى ما!.
لا البحار تقترب ولا الوديان تتحول الى رمل الشاطيء لتغيب الأنثى خلف باب آخر من أبواب الخرس والقبل المتساقطة كورق شجر جاد وذوى ذات خريف.
سلوم الراوي يفقد وطنه كسلك لا لون له ضمن خريطة من الأسلاك الشائكة لأحاجي تحاصر العراقيين ولا تترك لهم أثرا خارجها ليكون وادي الرافدين بقعة مشؤومة تبتلع أبناءها بتخاذل يكاد يكون خفيا لمن يبصر ما بعد حدودها وخلف جدران الغياب الغليظة تنسج الاساطير فلا أحد يعرف عن الراوي شيئا سوى التكهنات التي قد تكون عارية عن صحتها فصاحب القدر الذي رافقه ومضى اعلم بغيره مما حل به وحتى خواتمي لا تستطيع الجزم فمن أين لها ذلك وحكايات ألف ليلة وليلة مختلفة وغريبة عن بعضها البعض مخزونة في ذاكرة العدم أو ذاكرة عراقي ربما قد دفن في مكان ما أو سجن أو اجتاز الحدود بجواز سفر مزور حيث نحيب الغربة وخوائها لا يختلف في عدميته عن مقابر جماعية تصمت عظامها بلا مبالاة أمام تساؤل الأمهات وصراخهن عسى أن تكون هذه العظام وليس غيرها لابن قد رحل.
وفي “ظلال حافية” تجعل خواتمي من اينشتاين ونسبيته رفيقي طريق لفتاة حافية لا تحدث صوتا وهي تمر مسمرة العينين صوب جهة ما يحاول أهل البلدة التكهن بها فيغني وخطاها كل على ليلاه دون أن يتمكنوا من إيقاف قدرها المحتوم وربما قدرهم هم أيضا.
ولذلك لا تحترق أصابع البطاطا فقط في “أصابع بطاطا تحترق” بل كل ما حولها يتحول الى مجرد دخان وفوضى وأسئلة شرطة والصمت سيد الأدلة مادامت كدماتها الزرقاء والحمراء وأنينها وأوجاع الليالي والريبة والشك لم تدل جميعها على أثر جريمة تذكر تستوجب احتلالهم لبيتها المقلوب رأسا على عقب وليس سوى الحبل من شاهد.
ولابد للفقر والغنى أن يرتديا الأخرين ثيابا ولأجلها… لأجل هذه الثياب وحدها تنحني الهامات وتلامس الجباه الأرض فمن كساه الثراء ومن عراه العوز يسجدان أمام وثنية المال التي تصنع آلهتها بعيدا عن أعين السماء وعن “الحب أو… لا شيء عنه” مطلقا.
عادة ما يلفظ الحب أنفاسه الأخيرة في مخدع النوم هكذا هو الأمر حين تذبل الموسيقى ويحلق العشق مغادرا ألوانه المبهرة اللامعة لتصبح الرغبة واجبا مدرسيا كريها وأن كان يعني الانتقال الى عام دراسي جديد و”رقصة الفالس الوردية” ينصل لونها وتفقد بهجتها… ودون أن يكلف نفسه جهدا يجدها قد غادرت ليتنفس الصعداء علّ رقصة وردية تبدأ من جديد.
لكن هذه النهاية لم تستوف الشروط لتكون زكاة مؤمن في قصة “مواء”:-
“يسوقني نحو الفراش اقبض نصف جسده، نصف قبلاته، نصف يومه، نصف ملابسه، نصف ماله “إنه شرع الله”.. وأنا رجل عادل.. هل ستمنعين ما شرع الله؟
وبين ظل رجل قد تهاوى في حفر كالفخاخ ومقهى يبدد الأنفاس كما تبددها آفة السرطان في انتظار قضمة أخيرة من أشلاء باردة تتربع الغربة لتقف حائلا بينه وبين جسد “إيما” الملوث ببقايا بصمات غيرة تعتاش على غيظه كأن أصابع خفية تعابث فحولة شاربيه الشرقيين المنتوفين خجلا ووضاعة لتتمزق رسائل “مراد الآغا” الوهمية ولا تصل رفاق المقهى أبدا حتى بعد عشر سنوات من الرحيل نحو غرب يتجاهل ويدعي نسيان الشرق الأوسط.
زهرة تقطف من غصنها لن تذبل إلا في قدح ماء صغير بعد رقعة باهتة مقتطعة بسكين متعثر الحدين من زمن لست تملكه ومكان أبصر بمصيرك ممن يقيم بعيدا عن الأزقة.. لن تكتفي زهرة بماء حنفية فحسب وهي بنت الربيع المدللة.. إنه ما يدعونه بداء الفروقات الطبقية التي في غمرة الأحلام تدوس بـ”العقب الحديدية” بدون رحمة على أرق منطقة من وريد العنق ولن يجدي الإصغاء لما قد يصدر عن البتلات من ندى.
وتحت سقف المعضلة تظل “قبلة خرساء” هي كل ما بحوزة الأنثى حين تكون المرآة مقياسا لمدى صلاحيتها للاستخدام أو الانتفاع بها كشيء… وكما لكل الظواهر الطبيعية والفيزيائية مقياسا وهي تمر كالعاصفة أو الزلزال أو الحمى أو تلك التي تقيم أبدا معنا كالضغط الجوي والكثافة والكتلة كذلك سيكون للمقياس كلمة الفصل ليحتكم إليه إن كان عليها الاستمرار بالوقوف أمام مرآتها أو الكف عنه وهي تقر مؤمنة بأن قبلة بعاهة مستديمة خير من إحالة أنوثتها للتقاعد ومعاملتها كعانس محتملة بعد الثلاثين.
لم تكن سوزان خواتمي في كل ذلك قد وضعت بوابة رئيسية لاجتياز الأسوار العالية حيث يختبيء ضحايا القبل الخرساء رجالا ونساء بل حاكت وببراعة عشرات المداخل الخضراء اليانعة أو الشاحبة الجافة أو المتخشبة المجعدة وتركت لنا تمزيق الأوهام المتراجعة أمام خطى تشحذها بصيرة اكتشاف حادة في تساؤلها المتواصل عما ستحمله رائحة انسكاب الآثار البشرية على الورق.
هنا تقترح عليك اللغة أن تحمل الريشة الرشيقة لتهب كل ما لديك من زينتها كاملة غير مفتعلة ويتشكل مدادك محاكيا أبطال خواتمي بأبعادهم المجسمة مبهورا بتوقيعها الغض على لوحات متكونة حديثا.
إن هذه المجموعة التي تحتفي بالإنسان وهي تشده نحو دفء حضن رؤوم دون أن تضمن له خارجه سوى ما حدث وما سيحدث تنتزع من بين نجومه كل ما يكفي لإمرار ظلام أيامه في موشور لا يخطيء أبدا اصطياد بقعة ضوء تستظل بها “قبلة خرساء” متحولة عن كثب الى “صوت يصعد شجر الحكاية”.
|