باسم عبدو
جمر الرصيف والمخلوقات النبيلة
- يرفع "نادر عبد الله "يديه متضرِّعاً إلى السماء على أرضية ذهنية متفتّحة.
يتأمل في لوحة روائية جديدة، بعد روايته الأولى "نهاية شيء ما"، اعتمد في جزء منها على الواقع، وفي جزء آخر على التخييل.
وعبر رؤية إنسانية شفافة محورها "بسمة"، تلك المرأة الشاميّة المحجّبة، و "نور" بائع الكتب على سور حديقة المتحف الحربي.
وبين الشخصيتين فسحة من الحُبّ، ومن الأمل، وتقارب روحي متين، يكشف نور عن وجهي اللوحة التي تتنقّل عبر خطوطها "بسمة"، فهي من الخارج تعكّر صفاء الروح والنفس من عتمة الجلباب والغطاء الأسود، والنظارات والقفازات السود، أي كتلة من العتمة تحت قرص الشمس.
ويصفها نور قائلاً: «هذه المرأة العمياء المحمية بالجوارب السميكة، والمانطو الفضفاض والنقاب المنسدل على وجهها، وأيضاً تلك القفازات السوداء في يديها».ص12.
- هناك تناقض صارخ بين الداخل والخارج، واستطاع "نور" أن يبحث وينقّب عن الجمالية المعششة تحت الأغطية، وفي حياة الناس..«إنَّ ثمّة جسداً أسطورياً ينبض تحت الستار القماشي»ص12.
- في الرواية بحث دؤوب عن شخصيات القاع الاجتماعي، وعن النماذج البشرية التي تعيش في هوامش المدن والمخيمات، وعودة الذاكرة إلى الحياة الجمعية -التعاونية، الفلاحية قبل النزوح "67" وبعده -عودة إلى الأم وحليب الأكياس ومطعم الفلافل والحمص وإلى أبي إبراهيم والجزائري "الأصولي" و"أحمد" و"أم عوض" وبائع الكتب.
ويبحث "نور" بين البشر والكتب عن المخلوقات النبيلة، وهذه مسألة هامة، وكبيرة في مجتمع يتلظّى فيه الصراع الاجتماعي والسياسي والأيديولوجي، وبخاصة بين الأصولية الدينية والسياسية والليبرالية والماركسية، ويحتدم التناقض ويتداخل ويتشابك.
- تمثل شخصية "هاشم" الفدائي مرحلة معينة وحالة محددة في الزمان والمكان، ويعبّر عن واقع التنظيمات الفلسطينية وميليشياتها وعن "حزب العمال الطليعي، وأمينه العام "نور".
وكيف كانت "بسمة" وخالتها تعشقان "هاشم" وكيف ترك "هاشم" خالتها ووطد علاقته معها، وفضَّ بكارتها، هذا من جهة، وكيف كانت الحدود العربية مُغلقة في وجه الفلسطيني، ومازالت، فهذا نور ممنوع من الدخول إلى مصر والأردن ولبنان، من جهة أخرى.
- في الرواية حوارات مكثّفة وقصيرة، تدور بين "نور" و"بسمة"، ونور وأم عوض ، وتسأل "بسمة" صديقها، وهما في المخيم: «لا أراك تسلّم على أحد، أو أحد يسلّم عليك، ألا يعرفك أحد هنا؟» ص150.
حصل هذا بعد هجرة المخيم، ولكن أم عوض التي تجلس أمام باب الدكان تتعرّف على "نور" وتتذكّر الصداقة التي كانت تربطه مع ابنها "عوض" الذي استشهد في جنوب لبنان.
- وفي الرواية حوادث قتل لغسل العار، فهذا أبو إبراهيم يقتل زوجته فطيم، وأبو درويش يقتل ابنته خضرة... اتّهامات بالخيانة والزنا في مجتمع يغرق بالفقر والقبلية والبيوت الطينية والأزقة الضيّقة.
- وكما هو مُتعارف عليه أنَّ المكان في الرواية هو الفضاء "الحيّز" الذي يستوعب الشخصيات مهما تعدّدت وتنوّعت أصولها وثقافتها ومنابتها الطبقية، ويندمج الزمان فيه ليشكلا معاً "الزمكاني". ويتم في المكان الإثراء الجمالي، وديناميات العمل الروائي الفاعلة. ومن المعروف أيضاً أنَّ الشخصية هي التي تُضفي على المكان هيبته ورونقه، وتثّبت ملامحه في ذاكرة المتلقي، لأنَّ المكان هو الجزء الثابت في الرواية، والشخصية هي التي تتحرك، وتتحدث، وتقوم بالعمل، وتفعل فعلها بإرادتها، وتقوم بمهماتها الموكلة إليها والمخصصة لها، دون تدخل أو توجيه، وهي التي تزيّن المكان وتلوّنه. فالرصيف مثلاً في رواية "حجر الرصيف" لنادر عبد الله، هو حيّز محدود المساحة، يمتدّ على جانب الطريق، وخصّص للمشاة، وليس للكتب، بينما استخدم في الرواية لعرض الكتب التي رُصفت ورتّبت بجانب بعضها فوق حافة الرصيف التي يصل عرضها إلى عشرين سنتيمتراً. وهذه الكتب "المعروضات" يسميها الروائي "المخلوقات النبيلة"، ولها عناوينها وأغلفتها الزاهية المعبّرة عن المضامين، وتركت بصمات عشرات الفنّانين عليها، هذه الكتب بدّلت مفهوم الرصيف عند المارة، فبالإضافة إلى أنّه مخصص للمشاة، أصبح يشكل معرضاً دائماً للكتاب، فتغيّرت صفة المكان واكتسب دلالات أخرى.. أصبح "بؤرة" جمالية، تزخرفه الكتب والناس والمهتمين بالعلم والثقافة والأدب والتراث والأبراج والفلك وكسوف الشمس والجنس والحب.. وو...
- وفي الرواية أمكنة لم تأخذ من الكاتب أو الراوي ماتستحقه من اهتمام ودراسة، فمثلاً، لم يتوقف البطل المحوري "نور" عند مقام السيدة زينب، ليرصد كل الحركات وينقل للقرّاء الزخارف والزينة، ويصف الموجودات في داخل المقام، التي تشكل النذور، لبنات وعجزة وأرامل، وهي عند هؤلاء مقدّسات، وليعرف المتلقي أيضاً ماذا يحصل في يوم ذكرى عاشوراء، حيث يمكن التعرّف على تقاليد وطقوس بعض الطوائف الدينية.
إنَّ تصوير الشخصية، يتطلب تجسيد الإحساس بالمكان عن طريق إشاعة الجوّ المحلّي النابع من صميم البيئة، كما يقول، "صلاح صالح" في كتابه "قضايا المكان الروائي".
- ومع موجة "الرواية الجديدة" التي اقترن انتشارها باسم "آلان روب غرييه" وكتابه المهم "نحو رواية جديدة"، بدأ المكان الروائي يغادر انزواءه في الرواية، وفي النقد المشتغل في الرواية. وأخذت الأضواء تشمله شيئاً فشيئاً، كما أخذ دوره في تشكيل عوالم الرواية الجديدة ينتشر شيئاً فشيئاً، وابتدأ أيضاً يسهم في إغناء النقد الروائي، والفكر النظري والجمالي المتعلّق بالرواية. بمواد جديدة، وموضوعات جديدة، وقيم لم تكن معروفة من قبل.
إنَّ عدم تحديد المكان على شبكة إحداثيات الموقع الجغرافي، انطلاقاً من أنَّ الشخصيات غير ثابتة في مكان ما، إلى جانب "شخصيات تظلّ ثابتة من أوّل الرواية إلى آخرها".
الشخصيات غير الثابتة تتصف بالحركة الدائمة والتنقّل، مما يستدعي القارئ "المتلقي" والناقد، أن يبني المكان ويهندسه كما يتخيّل، وكما تفعله الشخصية، وسيأخذ المتلقي مكان الراوي، ويحل محلّه، مما يخلق فجوة في العمل الروائي لغير صالح الكاتب.
- وفي جسد العمل الروائي يستند الراوي "الكاتب" على جدران التداعيات، وعلى الخلفيات، ويربط الحوادث من رؤوسها ويسحبها نحوه إلى خزّان الذاكرة، وهو يسترخي في سريره. ليزيّن بها الحدث المتفرّع إلى أكثر من جهة، ضمن دائرة كبيرة، تتسع لعمل الشخوص والتداعيات والأحلام وساعات العمل في مختلف الفصول... هذه اللوحات المنقولة عبر أشرطة الذاكرة، تُعلّق على جدران الحاضر، ويفتح النوافذ الشرقية، فتشرق الشمس عليها، ويبدأ صباح جديد تدبُّ فيها الحياة، وتبدأ تعمل.
- في رواية "جمر الرصيف" يذكّرنا الراوي قائلاً: «كثيراً ماتخيلت أنَّ بعض هؤلاء الباعة الذين لفظتهم أمكنة مختلفة ومتباعدة، هم بالضبط قبضايات الأزمان الماضية». ص33.
يريد الكاتب أن يثبت لنا بأنَّ هؤلاء الناس البسطاء والفقراء والمهمَّشين، لهم مكانتهم النضالية والاجتماعية.
- يستند "نادر عبد الله" على الجدلية القائمة بني الذات والزمن، حيث تشكل الذات بُعداً فنياً ودلالياً في الصياغة الزمنية للنصّ الأدبي، وبخاصة، النصّ الروائي، لأنَّ بناء الشخصية في العمل الأدبي. يستند إلى ماضيِ الشخصية وحاضرها ومستقبلها، أي أنَّ الزمن يشكل الدعامة الأساسية في بناء الذات الروائية، على مستوى الحدث والسرد والمكان. كما يرى الدكتور "مراد عبد الرحمن مبروك" في كتابه "بناء الزمن في الرواية المعاصرة".
ويستطيع الروائي أنْ ينقل إلينا الصراع الداخلي المغلّف بنزعات تشاؤمية، بين حياته "الواقع الذاتي"، والواقع العام "الواقع الجمعي". وهذا نتاج الحالة المترادية التي وصلتُ إليها: «أنا نادر عبد الله صاحب روايتين ومجموعة قصصية، أبيع الكتب على هذا الرصيف». ومن هنا جاء عنوان روايته "جمر الرصيف" -مخلوقات نبيلة- دار نينوى -1999- دمشق.
ويصبح الرجل المبدع (نور)، صاحب الكلمة الرقيقة، الشفافة "قوّاداً". ويقول: (أبقى هكذا ساعات طويلة أرقب الكتب الملقاة على الرصيف فأراها عاهرات مزرية وأنا القوّاد). ص43.
وتخرج الشفافية من بين الأضلاع، وتنزّ دماً من بين المسامات، تخترق الغيوم، وتبدّدها، ولكن الفرح المخبّأ يعود للظهور، فهذا نور يخاطب بسمة قائلاً: (يستجديني لاعباً حاذقاً في رعي جسدك الرّباني الذي لم يكن قبله ولابعده، سأجعل لملمس أصابعي على أديمه الفاتن كرنفالاً لمتعة ستتوطن روحك وتجعلها ملوعة إلى الأبد، سأمرّر شفتيَّ الملتهبتين بأنفاسي الحارة على مسافة قريبة من زغيباته العطشى لأحيلها أنيناً لايخمد عويلها ولا ينوس). ص48.
ويميّز أيضاً بين "المخلوقات النبيلة"، الكتب على الرصيف، و"شقّة المخلوقات النبيلة"، الكتب المكدّسة في شقّة عجوز يريد بيعها، هذا من جهة، وبين "المخلوقات القبيحة"، وهم رجال الشرطة الذين يطاردون نور، ويحاولون منعه من بيع الكتب على الرصيف، فينثرونها فوق الإسفلت، وهو يقف دون أن ينبس بكلمة، لكنّه كان يردد مع نفسه: "إنَّ بيع الكتب على الأرصفة ظاهرة حضارية تشجعها الدولة" ص106.
إنَّ الصراع المحتدم في داخل الشخصية يزعزع ويخلخل أحلام نور وتخيلاته، الذي يستعبد الماضي القريب والبعيد، ويفتح لهما ساقية، لترفد نهر الحاضر الصاخب الملوّث بالقاذورات والضجيج واللصوصية والدناءات.. ينسى نور كلّ هذه الأمور التي يسمّيها "تفاهات" ويشعر بالفرح وتطفح السعادة فوق جلده وجهه، حينما تترك بسمة الحرية لأنامله في البحث عن أسرار الغمّازات، ونعومة شعرها، وهذا الفوران المتدفق في نهديها، فينسى كلّ الأشياء القبيحة، ويتنعّم بالجمال، ويرشفان النبيذ في شتاء قارس وأمل دافئ.
حقّق "نادر عبد الله" نجاحات ملموسة من خلال ترسيخ هذه المجتزءات المقتطعة من أمكنة مختلفة، وفي أزمنة مُتباعدة، وتمكَّن من تثبيتها في لوحة روائية -إنسانية، تحمل الرقّة والشفافية، وبقع اجتماعية وروحية وسياسية مضيئة، بعيداً عن عصر الأيديولوجيات، في مجتمع يموج بالصخب والحُبّ، لكنّه رغم ذلك يطلق على الناس الطيّبين وعلى هذه الكتب التي تنتظر مَنْ يشتريها ويقرأها، اسم "المخلوقات النبيلة".
اللغة في رواية "نادر عبد الله" كانت شاعرية، لم تطغَ أو تؤثر على الحدث، بل أنّها سرَّعت في تدفّق السرد، وبعثت الشهوة عند القارئ للمتابعة.
إنَّ "جمر الرصيف" من الروايات الفلسطينية التي تقف على قدمين ثابتين، وتجربة بدأت تنضج.. وهي من الروايات الحداثية التي تخاطب عقل الحاضر والمستقبل معتمدة على إسنادات إنسانية بسيطة، قيمية، معاصرة، ممثلّة في هذه الكتب العارية، المكشوفة للريح وللعيون، وستظلّ متوهجّة اللهب، تتأجّج حُبّاً ودفئاً في أفئدة الناس...
|