شغف حار تذرفه عينان برّيّتان

كتب

الأربعاء 10-3-2010م

منصور حرب هنيدي

بلغة موّرقة و إحساس مزهر تتابع الكاتبة /وجدان أبو محمود/ بوحها القادم من براري الوجد عبر مجموعتها القصصية الثانية / شغب بازلتي / الصادرة عن الهيئة العامة السورية للكتاب.

هذه المجموعة التي تطفر كالدرة اللامعة أمام القارئ الباحث عن المختلف والمتميز بين الركام الذي تلفظه المطابع من كتب آيلة للتلاشي والنسيان.‏

فبعد مجموعتها الأولى / كسارة السكون / الصادرة عام /2005 / و التي بشّّرت بولادة موهبة جديدة تعد بالكثير، تأتي /شغب بازلتي / لتؤكد هذه البشارة و لتضعنا أمام كاتبة امتلكت أدوات فنها و قطعت المسافة الوعرة الفاصلة بين هواية الكتابة و غواية الإبداع.‏

تضم المجموعة ست عشرة قصة قصيرة تتحدث الكاتبة الشابة من خلالها عن الإنسان المنذور للفوات، بهواجسه وأحلامه وأحزانه و انكساراته، حيث ترصد في كل قصة تفصيلاً صغيراً في حياة أبطالها ليشكل الأساس الذي تُبنى عليه مداميك الحكاية أو النافذة التي تطل منها على حقول وجدانية شاسعة مزروعة بالحنين والحب و الحزن و الانتظار..‏

رفعت صورة كانت الأحلى، وكان رند فيها يمسك بزجاجة الحليب بينما يرسم ثغره الأحمر ابتسامة صغيرة لتسيل منه خيوط الحليب البيضاء الناعمة، فاجأتني حين مرّرت أصابعها على الصورة محاولة أن تمسح له فمه .‏

بهذا الإحساس الرفيع عبّرت الكاتبة عن مشاعر أمّ قتلت طفلها عن طريق الخطأ، و بمثله أيضاً و في القصة التي حملت عنوان /بسمة فقط / عبّرت عن عواطف و انفعالات أمّ أخرى انتظرت ابتسامةً من ابنها المسؤول و المشغول والمغسول من والديه بالماء والصابون و الذي يقبّل أيديهما وكأنها مناديل لمسح الألم لا أكثر .‏

لقد عمدت الكاتبة إلى المزج بين أنساق لغوية مختلفة وجمعها ضمن إطار واحد يرفع منسوب دلالاتها، فرغم تعدد مستويات السرد الذي يأتي بضمير المتكلم أو بضمير الغائب أو على هيئة مونولوج أو حوار، لن يجد القارئ كبير عناء في الإمساك بالخيط المفرد الذي ينظمها حيث تلعب اللغة هنا دور البطولة المطلقة بوصفها كائناً ينبض بالإيحاء الذي يرسم حدود المصرح به و المسكوت عنه، إذ يصبح المغزى الظاهر مجرد مؤشر على مغزىً آخر يقبع خلفه، وعليه يغدو من الضرورة بمكان أن نرى إلى المغزى الظاهر في قصص المجموعة كأداة لنبش مضمراتها والكشف عنها حيث تتبدى لنا بتحليل التراكيب اللغوية التي تستثمر جماليات شديدة الخصوصية لإظهار ما تنطوي عليه الشخصيات من مشاعر و أحاسيس و انفعالات.‏

لو يبكي.. لقد أدرك فجأة جمالية الدمع لحظة يتخطى وظيفة الطابع فوق إحساس مجرد . /عقدة فرح /‏

لا مكان للمشاعر خارج دائرة الأمان، الدائرة الضيقة التي لا تتجاوز مساحة قطعة نقود معدنية . /ستائر /‏

ها هي تنفجر من دون صوت و بالصمت الذي اعتاده طيلة حياته، إنها حارقة جداً ومخنوقة، إنها تنساح من أعلى الخد إلى أسفل الذقن، إنها تسقط . / فعل انتقامي مكسور/‏

أشير أخيراً إلى أن الكاتبة حاولت أن تتجاوز القوالب النمطية المكرسة فاعتمدت في بعض قصصها على المفارقة و كسر الإيهام و القفلة الصادمة، بيد أنها لم تستطع في بعض القصص الأخرى مغادرة تلك القوالب إذ ظلت فعاليتا الوصف و السرد مرتهنتين للصيغ التقليدية التي قد نجدها عند الكثيرين من كتاب القصة القصيرة الذين ينتمون إلى أجيال مختلفة، لكن رغم ذلك تبقى / شغب بازلتي / خطوة واثقة في طريق ستفضي كما نتمنى إلى ما هو أفضل و أجمل.‏

عودة