- السيد المحترم والسيد المحترم والسيّد المحترم.. مصابون بداء عضال منتشر في أوساط القائمين على الأمور والشركات وأشباههم: الداء هو المجاعة بحالاتها المتعددة..
وظهر للطبيب, وهو يعاين أوردة وشرايين ورئتي أبي الأيمن, وآباء الأيمنين الآخرين أن بعضهم سدّ الوريد الأبهر عنده بجدران أبنية الشركة التي يقعد على أمورها, وآخرون سدّت شرايينهم بجذوع الأشجار, وثغاء الخراف, وأغاني المتعبين...
- ارسموا قراكم كما تبدو في أحلامكم.. وحددوا مجاري أنهارها والحواجز التي تقف في وجهها, وإذا استطعتم,تعلموا رسم الوطن من أظافره إلى أعلى رأسه.. ارسموه ممزقاً مجروحاً.. جائعاً.. محتلاً.. مقتولاً.. شجاعاً.. مهاناً.. عظيماً.. ولاتنسوا إن تمروا على المسنين, لتسمعوا حكاياتهم عن الأيام. ولاتنسوا أن تفهموا جيدا لماذا تتقاتل العصافير والبراري.. وتختلف المدن أو القرى.. اكتبوا سؤالاً كبيراً.. كبيراً.. كبيراً:
لماذا تسد الحيتان مجاري الأنهار؟! والكذبات السوداء لماذا تسرق الصدق من البيوت, وتخنقه خنقاً لاشفاء منه?!
-والدتي اسمها حمدانه. تشبه البراري العطشى, وتحب أولادها والأغاني والمواويل, وتكره السفر إلى المدن. لا أعرف لماذا.. وتشتغل النهار وأطراف الليل لتجني لنا لقمة العيش.. ثوبها لا تُبدِّله في السنتين مرة وشعرها يشبه “الطيون” لأنها لا تنصرف إلى تسريحه إلا في أيام المطر الغزير, وفي بعض الأعراس القليلة جداً. وتربي الدجاج وتذهب إلى نبع القرية,لحمل الماء لنا.وإذا قصدنا جائع لابد أن تطعمه.. ولو لم تجد إلا الرغيف الذي سيأكله.. والدي محارب قديم شارك في معارك عديدة وأخذ أكثر من وسام شجاعة وحسن تدبر في المعركة,وقد زودني ببعض الأوراق والحكايات التي تثبت صدق أقواله..
-
- في الشوارع التي عبرها زيد كان الغبار ملء الأفق ودوي قاس يشتت صمت المدينة ويقتله, ومشردون كثيرون مثله, لا يملكون إلا التعاسة والشقاء والأقدام المتعبة, من كثرة السير يمينا وشمالا وشرقا وغربا بحثا عن معين أو رغيف..
في الأيام اللاحقة دخل زيد إلى أبنية وهيئات ومؤسسات مختلفة الأحساب والأنساب والأخلاق العامة والخاصة, لكنه في كل هيئة أو مؤسسة, كان يصادف السكرتيرات بقياسات مختلفة وماركات مسجلة وغير مسجلة:
بعضهن مستطيلات وبعضهن مستديرات, وبعضهن عموديات وبعضهن أفقيات, وبعضهن يفضلن الطلاء الاصفر, وبعضهن يفضلن الطلاء الأحمر,وبعضهن يفضلن تنوع الطلاء, وبعضهن جئن من القرى, وبعضهن من الأنهار الموسمية والمستنقعات, وبعضهن من الشوارع والمدن الصغيرة والأبنية والغرف الضيقة والواسعة.
لكنه في كل هيئة أو مؤسسة كان يصادف السكرتيرات وإلى جوارهن تطلعات القائمين على الأمور، تحرسها أعين السكرتيرات أو سواها.
- تغيَّرت الحال ياأبا حمدان: لاأحد يحكي الحقيقة.. وكلُّ شيء ليس بخير.. أشجار المشمش منخورة يا أبا حمدان, وليست بخير. أشجار الزيتون أصابها اليباس وليست بخير.. الأغنيات صارت صراخاً موحشاً يصفع صفعاً وليست بخير.
- النساء خلعن البهاء,وارتدين أثداء معلبة وشفاهاً معلبة, وحفظن كلاماً رخواً, كالوحل والموت ولسن بخير..
الحكايات صارت كاذبة وليست بخير.
الرجال نسوا الرجولة والأحلام, وليسوا بخير.
- لم يمض وقت قصير حتى علم نادر أن مكافأته طارت مع: أحييك بحرارة. حينها قال في نفسه: من أين يمكننا أن نجيء بتحيات تخلو من الطعن والكره الموقوت?
هل نعثر عليها في أسواق الصاغة والأعمال اليدوية, أو في محلات بيع الأقمشة, أو في مؤسسة استصلاح التحيات والكائنات.. أو على أرصفة خاصة ببيع التحيات الحارة والباردة.. لكننا لن نستفيد فائدة كبيرة من عثورنا على هذه الأرصفة.. لأننا لن نميز التحيات الحارة من التحيات الباردة إلا بعد أن تنالنا طعناتها, وينفجر كرهها الموقوت في وجوهنا..
|