لا تزال صورة الأمهات والجدات وهنّ يحملنّ على أكتافهنّ "المناشل" لنقل المياه من بئري "الرمانات والطبالية" مطبوعة في ذاكرة جيل الأربعينيات والخمسينيات من أبناء قرية "ذكير" في محافظة "السويداء"، ولم تمحها السنون.

ذكريات الأهالي مع هذين المنهلين كتبها الآباء والأجداد بمداد عرقهم، وما زالت محفوظة في أرشيف جيل القرن الواحد والعشرين، فطيفهم وصدى أصواتهم وهم "يتفازعون" شيباً وشباباً، عند جريان الأودية أيام الشتاء لجر مياهها إلى البئرين، ما زالت تسكن الذاكرة وتستوطن القلب، فعند هاتين البئرين كتب قاطنو القرية، ومنذ بدايات القرن العشرين، أبجديتهم التي ما زال يقرؤها أحفادهم حتى وقتنا هذا.

صور تذكارية

في زمنٍ لم يكن فيه للآبار الارتوازية، أي دور مائي لإرواء الأهالي، كانت بئرا "الرمانات، والطبالية" المنهلين الوحيدين على ساحة قرية "ذكير"، يُطفئان ظمأ الأهالي، إذ تحدث أحد قاطني القرية الشيخ "منصور سويد" لمدونة وطن eSyria قائلاً: "رحم الله أيام زمان عندما كانت نساء القرية تتوافدن على هاتين البئرين، مع إشراقة شمس أشهر التحاريق، لينقلنّ المياه، بواسطة "المنشل" إلى بيوتهنّ، ولا يزال هذا "المنشل" المُحتفظ به في معظم بيوت القرية، يؤرخ لتلك الأيام، كما لا تزال "الخابية" المصنوعة من الفخار، تواقة، لمياه "الطبالية وبئر الرمانات"، بعد أن ودعتها منذ مطلع ثمانينيات القرن الماضي، لتصبح وحيدة ضمن منازل قديمة هجرها أهلها منذ سنوات، وذلك الوادي الذي جفت "عروقه".

الطبالية

محفورة بالصخر

بئر الرمانات

ويتابع "سويد" حديثه بالقول": "لا يزال شريط ذكريات الأهالي مع هاتين البئرين، المُحتفظ به في معظم بيوت القرية منذ نحو مئة عام، يُسمع ويُشاهد من أبناء القرية كافة، لتبقى ذاكرة من غادرنا إلى دار الآخرة حاضرة فينا، رغم هذه السنين، فالطبالية وبئر الرمانات كانتا ولأكثر من ثمانين عاماً عامل استقرار وأمان لأهالي القرية، إلا أنه وبعد أن دخلت الآبار الارتوازية على خط إرواء الأهالي، خرجت البئران من حسابات الاستثمار المائي ولتغلق أبوابهما الحجرية، بعد أن انقطع شريانهما، والزائر لهذين المنهلين، سيلحظ أنهما محفوران بالصخر، بشكلٍ دائري وعميق، ويتربع سقفهما على أعمدة بازلتية غاية في الروعة والجمال، ولعل ما يدهشك ذلك الدرج الحجري، الواصل إلى قلب البئرين، نعم غابت المياه عن البئرين، إلا أن جدرانهما والصخور المحيقة بهما، ما زالت تحتفظ بحكايا الآباء والأجداد، لتسردها على من أتاهما من الأحفاد سائلاً عن تاريخ أهله المؤرشف هنا".

شريان حياة

الزائر لقرية "ذكير" لا يمكنه أن يغادرها، دون أن تكتحل عيناه برؤية البئرين وقناتهما المغذية لهما، التي لم يبق منها سوى صور ماضيها، ولا سيّما بعد ما جارت عليها يد الطبيعة والإنسان، إذ يقول أحد قاطني القرية "فارس شرف": "نحن كساكني القرية منذ نحو سبعين عاماً، لنا ذكريات لا تنسى مع بئري "الرمانات والطبالية"، فمن لا يتذكر كيف كان الأهالي يتهيؤون أيام الشتاء، خاصة عندما يفيض وادي اللوا المار وسط القرية، لجر "خصلة" من مياهه عبر قناة ما زالت بقاياها شاهدة، على من مر عليها حاملاً معوله لتوجيه مياهها نحو الطبالية وبئر الرمانات، التي استخدمهما الأهالي منذ أكثر من مئة عام، فكانتا الشريان المائي الوحيد، الذي استطاع أن يضخ روح الحياة بمن جاء القرية ساكناً، وإطفاء ظمأ من أتاها قاصداً سبيلها.. رحم الله أيام زمان عندما كانت الآبار القديمة المصدر الأساسي للمياه، وحالياً لا نتذكرها إلا إذا صادف مرورنا أمامها، خاصة بعد أن طوتها السنين وباتت مجرد صور لذكريات فأقنيتها المغذية لها جفت دموعها منذ سنوات طويلة، ولتصنف بعد إنطلاق عجلة الآبار الارتوازية في جداول الذكريات، ولتبقى حاضرة لا تغيب في ذاكرة من عاصرها وشرب من مائها".

فارس شرف

عامل استقرار

وفي هذا السياق يوضح الباحث الأثري "وليد أبو رايد" أن القرية وإضافة للبئرين تحتضن أيضاً نحو أربعين بئراً قديمة، يعود تاريخها إلى أكثر من ألفي عام، وقد شكلت هذه الآبار وعلى مدى أكثر من مئة عام، عامل استقرار للسكان منذ بداية القرن العشرين، حيث كانت بمنزلة الشريان المائي المغذي لأهالي القرية، إذ استخدمت مياه هذه الآبار -إضافة للشرب- لسقاية المواشي أيضاً، وخصوصاًً أنّ سكان قرية "ذكير" كانوا يعتمدون على تربية الأغنام والأبقار والماعز، عدا عن ذلك فقد ضخت هذه الآبار وعبر الأقنية المائية المغذية لها، روح الحياة في أشجار التين والعنب، ومهدت الطريق أمام المزارعين للزراعات الصيفية، وذلك من خلال قيامهم بإرواء أراضيهم شتاءً عن طريق هذه الأقنية، ليصار إلى زراعتها صيفاً بمحاصيل البندورة والعجور والبطيخ وغيرها.

ويضيف أن سكان قرية "ذكير" استمروا باستخدام هذه المناهل حتى بدايات القرن الواحد والعشرين، ولتصبح بعدها للذكرى خاصة بعد دخول استثمارات الآبار الارتوازية ما أدى إلى الابتعاد عن هذه المناهل ما أبقاها غير مستثمرة، علماً بأن إعادة استثمار هذه الآبار من خلال تأهيل الأقنية المغذية لها وتعبئتها سينعكس بشكل إيجابي على أهالي القرية لكونها تعدُّ بمنزلة الرديف المائي الداعم للآبار الارتوازية، إضافة لكونها خزانات إضافية لتجميع مياه الأمطار.