لم يكن التسجيل في كلية الفنون الجميلة في جامعة دمشق عام 1975، مرهوناً بالنجاح في امتحانٍ للقبول، يكفي أن يحصل الطالب على خمسين بالمئة من المجموع العام للشهادة الثانوية، لكن ما لم يعلمه التشكيلي والمُدرّس "وفيق البوشي"، وكان واحداً من بين 36 طالباً ناجحاً من بلدة "قدسيا" آنذاك، أنّ قراراً بضرورة اجتياز امتحانٍ خاصٍ بالكلّية، صدر ذلك العام، ولم يسمع به أبناء المنطقة الريفية.

يستعيد البوشي حزنه بضياع فرصته في دخول فرعٍ، تُؤهلُّه له موهبته التي يشهد عليها رفاق دربه، لسببٍ فرضته ظروفٌ أقوى من إرادته، ثم لم يكن أمامه سوى التسجيل في معهدٍ زراعي في منطقة "خرابو" في الغوطة الشرقية، إلى أن قرأ صدفةً، إعلاناً عن معهد إعداد مُدرسين في قسم التربية الفنية، فاسترد أوراقه من المعهد الأول، وتقدّم بها مع امتحان القبول إلى الوجهة الجديدة، وكما كان مُتوقعاً منه، حصل على الدرجة الأولى، وهو الطالب الوحيد من محافظة ريف دمشق وقتها.

يقول البوشي في حديثٍ إلى "مدوّنة وطن": "بانتسابي إلى المعهد المعني بالتربية الفنية، بدأت خطوتي الأولى في طريق الفنون، وكانت فترةً ذهبيةً بالنسبة لي في تعلّم الرسم، ولا سيما أنني لم أحظَ خلال مراحل دراستي بأستاذٍ يهتم أو ينتبه لقدراتي، ويبدو أن القدر عوضني عن ذلك، بالدراسة تحت إشراف الفنان الراحل "ناظم الجعفري"، فلم يبخل عليّ بشيء، كنت الوحيد من طلابه الذي دخل مرسمه، عرّفني على فنانين وزرتُ معه عدة معارض".

يرفض إعادة إنتاج الحرب

تخرّج البوشي في معهد إعداد مُدرسي التربية الفنية عام 1977، ليعمل لاحقاً مُدرِّساً للفنون إلى جانب ممارسته الرسم، إضافةً إلى الرسم على الجدران ورسم الصور، وعُين لاحقاً مديراً للمسرح المدرسي في وزارة التربية عن محافظة ريف دمشق. وفي مختلف المحطات التي مرّ بها، كان مُلتزماً بنصيحة أستاذه الجعفري "اُرسم باستمرار، ولا تغتر بنفسك، الناقد هو المُعلِّم، وإلّا لا معنى لكلامه"، وكانت أولى تجاربه في التعليم في مدرسة "أشرفية وادي بردى"، وعلى غير العادة في تلك الأيام، توفّر فيها مرسم وغرفة لمادة التدبير المنزلي.

يُؤكد البوشي أنّ عدم الجدية، صفة ملازمة لعددٍ لا بأس به من مُدرسي الفنون، وتنسحب أيضاً على الأهل، وللأسف جزءٌ من العاملين في ميداني التربية والتعليم، في حين يجب أن يكون هذا المُدرِّس مُتمكناً من مادته، قادراً على الإلقاء والتعاطي مع نماذج مختلفة من الطلاب. يُضيف للمدوّنة: "عليه أن يُثقف نفسه ويُتابع التطور الحاصل في مادته، ويتوقع دائماً أسئلةً يُوجهها الطلاب على شكل اختبارات، فهو قدوة لهم، وفي نظرهم المُدرِّس يعرف كل شيء، خلال 39 عاماً في تعليم الرسم، كنت أرسم في الصفوف، بدل الكلام عن القواعد والطرق، بحيث تتحقق المتعة والتعليم".

من أعماله

يهتم البوشي برسم الحارات الدمشقية القديمة والبورتريهات والمناظر الطبيعية، ومع أن عدداً من الفنانين، يستسهل هذه المواضيع مقابل التجريد، بمعنىً آخر اللوحة غير المقروءة أو المفهومة من قبل العامة، لا يُعير المُدرِّس اهتماماً لهذه الفكرة، يقول: "التزامي بمواضيع مُحددة، ليس تقصيراً مني، إنما شغف بها، لستُ ضد التجريد أو غيره من المدارس والاتجاهات، لكني لا أُوافق على توجّه الفنانين الجدد وقليلي الخبرة إلى آخر خطوة في التشكيل، يجب أن يمر الفنان بمراحل، الفنُّ سلمٌ يبدأ بالواقعية، الرسم كأنّ العين كاميرا دليلٌ وأساس في الإتقان المطلوب".

في رسوماته عن دمشق القديمة، يسعى لتحقيق شيءٍ من التوازن بين التوثيق ورؤيته الخاصة، وعلى حد تعبيره: "في الحارات هناك أساسيات يجب الحفاظ عليها في اللوحة، كأشكال الأبواب التراثية، خشب النوافذ والشرفات، تشققات الجدران، لأن التغيير هنا يصبح تشويهاً، لكن يمكن اللعب على عناصر أخرى في العمل مثل التوازن والانسجام والترابط، بحيث يُمكن الاستغناء عن رسم سيارة ما في الحارة، أو استبدالها بمكوّنٍ آخر، يخدم اللوحة".

المناظر الطبيعية على قائمة اهتماماته

أمّا في البورتريهات، يبحث عن وجهٍ غني بالتفاصيل، قابل لـ"التشريح تحت الجلد"، وكما يشرح، لا يُشترط أن يكون هذا في وجوه كبار السن، في التجاعيد والانحناءات، إذ إن بعض الوجوه تدعوه لرسمها، بل تدفعه لمزيدٍ من العمل في اللوحة، وهو يستمتع في بذل جهدٍ كبير في عمله، في حين يُصادف أحياناً وجهاً جميلاً لكنه غير قابلٍ للرسم، هذا يرتبط برأيه بشخصيةٍ غامضة ومُتقلبة، ومع الخبرة أصبح أكثر قدرةً على الحكم والاختيار.

ورغم أن "الحرب" تحضر في معظم الإنتاجات الفنية منذ عام 2011، يبتعد البوشي عن إعادة إنتاجها في اللوحة. يقول: "أُفكر أحياناً في رسم شيءٍ مما عايشناه في الحرب لكن معاناتنا كافية بالنسبة لي، لا أرغب بتكرارها، أشعر أنني إذا بدأت بلوحةٍ منها، فلن أكملها".

على صعيد التقنيات، سعى المُدرِّس للتنويع، لا سيما أنه بدأ الرسم بالألوان الزيتية والفحم، وعاصر فيما بعد "الباستيل"، "الفولوماستر"، "الخشب"، "الحبر الناشف"، وغيرها، وكان الانتقال من الألوان الزيتية إلى الزجاجية "التصوير على الزجاج"، مرحلةً فاصلة عنده، حتى أنه كان يُحضر لمعرضٍ يستند على هذه التقنية، لكن لم يظهر إلى العلن بسبب الظروف التي مرّت بها البلاد، ومن جهةٍ أخرى، تواصلت مشاركاته في معارض جماعية محلية وعربية، منها في وقتٍ سابق معارض الشبيبة ووزارة التربية ونقابة المعلمين، إضافةً إلى ملتقيات وورشات عمل في المحافظات، أحدثها في معرض جمعية "شموع السلام" لتكريم الفنان الكبير الراحل صباح فخري، بموازاة معارض افتراضية "أونلاين" في "ألمانيا"، "العراق"، "مصر"، "ليبيا".

ومع أنّ تجربته في الفنون تشمل الخط والرسم، وتتشعب بين تعليم الرسم في المدارس ومرسمه الخاص في قدسيا، والتعاون مع معاهد خاصة، إضافة إلى عددٍ كبير من المشاركات، إلّا أنه لم يجد دعماً إعلامياً، يقول: "الإعلام قصّر معي، ومع غالبية الفنانين، للأسف هناك تحيزٌ للبعض دوناً عن الآخرين"، إشكاليةٌ حقيقيةٌ قائمة ومستمرة، لكنها ليست الوحيدة لديه، يُضاف لها تكاليف وصعوبات شحن اللوحات للمشاركة في معارض خارج سورية، مع ما تسببت به الحرب من آلام.

الفنان التشكيلي "راتب مهرة" تابع تجربة "وفيق البوشي" منذ بدايتها، يصفه بالفنان المُربي، يقول عنه لـ "مدوّنة وطن": تتلمذ على يد أشهر الفنانين في القرن الماضي "ناظم الجعفري"، ومن ثم أبدع في الطرائق والتقنيات، وأجاد في ميادين متعددة من الفن التشكيلي أبرزها الخط العربي والإعلان وأعمال النحت، كما أتقن استخدام تقنياتٍ مختلفة.

ويرى مهرة أن أعمال البوشي، تتدرج بين الواقعية والانطباعية، خاصةً في معالجاته الكثيرة على بعض الخامات مثل الزجاج والرخام، يتعامل مع اللون بحرفية وجرأة، يُضيف: "وفيق البوشي" فنانٌ مبدع تُرفع له القبعات.