أدت الصورة الفوتوغرافية دوراً مهماً في إحياء الزمن بأسلوب حميمي، ساهم بقوة في إبقاء ذاكرتنا على قيد الحياة، خصوصاً في زمن كانت فيه الكاميرا والصورة حدثاً استثنائياً في حياة الكثيرين من أبناء ذلك الجيل الذي لا يزال يحتفظ بذكرياته موثقه بالصور الفوتوغرافية، يقلّبها بين الحين والآخر، مستذكراً جمال أيام مضت كانت فيها الحياة كما الصورة، جميلة بلا رتوش.

هكذا كانت

التقت مدوّنة وطن"eSyria" المصور "بسام عيد" ابن "مشتى الحلو" الذي ورث مهنة التصوير عن والده، حيث عاصرت عدسة الاستديو تفاصيل المنطقة منذ خمسينيات القرن الماضي، ليكون الاستوديو الرسمي الأول في المنطقة.

عن بداية والده في هذه المهنة التي ورثها عنه لاحقاً، يقول "عيد": "شهدت فترة الخمسينيات ازدهار مهنتنا، لأنها كانت حَدَثاً جديداً في مجتمعنا البسيط، كانت العائلات تتوافد إلى الاستوديو تنتظر الدور لأخذ صورة تذكارية، لتصبح هذه الصورة بمنزلة أمانة تنتقل من الابن إلى الحفيد.. بالإضافة إلى أهمية الصورة لاستكمال المعاملات القانونية.. لقد استخدم والدي آلة التصوير القديمة التي تعتمد في تشغيلها على الماء، وتُستكمل عملية الرتوش باستعمال "الدوا الأحمر"، وكان المرحوم "طنوس الزعيم" شيخ الكار في تلك الفترة تزامناً مع والدي".

يضيف "عيد": "في طفولتي لازمت والدي، وتعايشت مع الكاميرا، فبدأت العمل معه والتقطت أول صورة في عمر 12 عاماً، ومنها بدأت مسيرتي في هذا الكار.. باعتقادي لا يوجد إنسان يكره التصوير، و حبي للقديم أدخلني في مهنة تحيي اللحظة في صورة، وتجعل من هذه اللحظة متوارثة وأبدية".

مراحل وذكريات

يستذكر "عيد" ذكريات المنطقة وصور الأهالي بالزي الشعبي، وبرأيه أن أهم ما صورته الكاميرا آنذاك هو الشكل العمراني لمنطقة "مشتى الحلو" والمناطق المجاورة، التي تغيرت مع مرور الزمن بشكل جذري، فالصورة حافظت على شكل الماضي، أو بالأحرى وثّقت هوية المنطقة الشعبية والعمرانية، في ظل هذا التطور الذي محا معالم تلك الحقبة.

السيد بسام عيد

يستعرض عيد أول كاميرا اقتناها بعد دخول التقنيات الحديثة إلى "سورية": "كانت "يوغسلافية" الصنع، وبعدها بسنوات دخلت كاميرا كوداك الفرنسية الصنع إلى استوديوهاتنا، جلبها لي الأستاذ "الياس الزخور" من" الجزائر" أثناء عمله مدرساً هناك.. ومع ازدهار العمل في بداية السبعينيات، كنا نتنقل بالكاميرا من قرية إلى أخرى مثل "جنين، عين بشريتي، سبة، بتعلوس، كفرون"، لم نكن آنذاك نملك المساحة الكافية للتحميض في المحل، فاستعملنا غرفة الحمام المظلمة في المنزل لاستكمال أعمال التحميض".

من دون رتوش

يتابع "عيد" حديثه: "سابقاً كانت الصورة حقيقية أكثر، و لم تكن هناك مبالغة في الرتوش كما هو اليوم مع (الفلترة) التلقائية للعدسة، يد المصور كالفنان، تصلح ما هو ضمن المنطقي مع إبقاء الحياة في صورة الوجه مثلاً، دون أن تتحول الصورة إلى وجه مصنوع من الشمع، وبرأيي الصورة الطبيعية هي التي تتربع على رأس أي أرشيف، خاصة طبيعة منطقة "مشتى الحلو" بجبالها وصخورها التي نحتتها يد الخالق، فالطبيعة تغري العدسة، ولا منافس لها".

مشتى الحلو فترة الخمسينيات

ويضيف: "في تلك الفترة كنا نلتقط العديد من الصور العائلية في موسم الأعياد، لتتحول هذه الصور إلى كروت معايدة ترسل إلى الأقرباء في بلدان الاغتراب، وتكون بمنزلة الخيط الروحي مع الوطن، واليوم بتنا نرسل المعايدات بواسطة وسائل التواصل الاجتماعي التي ساهمت باتساع الشرخ الاجتماعي الذي أثر في علاقاتنا بشكل عام".

مواقف طريفة

يستعرض المصور " عيد" في حديثه للمدوّنة بعضاً من القصص الطريفة في العمل: "ذات مرة جاءتني صبيّتان من قرية "طريز" إلى الاستوديو لتأخذان صوراً فوتوغرافية بهدف إرسالها إلى ابن عمهما المقيم في الخارج ليختار بينهما عروساً للزواج، وطلبتا أن أضيف لمسة من الجمال باستعمال الرتوش والألوان على الوجهين، وتمّ الأمر كما أرادتا، لأسمع فيما بعد أنّ العريس أعجب بإحداهن وسافرت حيث هو، وعندما رآها رفض الزواج منها، لأنّ الصورة كانت أجمل من الواقع، لتعود خائبة إلى أهلها.. و موقف آخر كان عند زيارة العم "أبو خالد" إلى الاستوديو في عام 1982 ليأخذ صورة فوتوغرافية، يرافقه اثنان من أولاده، و بعد معاناة لإقناعه بالجلوس في المكان المخصص لأخذ الصورة، قال بتنهد عند انتهائي من تصويره.. "إن الصورة غير مؤلمة"، لاعتقاده أنّ الوميض الذي خرج أثناء التصوير هو صعقة كهربائية".

و يعدُّ "عيد" أنّ الصورة بالأبيض و الأسود ما زالت حاضرة حتى الآن و مرغوبة من الأعمار كافة لارتباطها بالذوق الكلاسيكي الذي لا ينتمي لجيل معين.

كان زمان

وعن الصعوبات والتحديات التي باتت تواجه المهنة يقول: "أهمها تأثير التكنولوجيا الرقمية على عملنا من عدة جوانب كانقطاع الأفلام، و قلة الزبائن بسبب استعمال كاميرا الموبايل المتاحة أكثر، بالإضافة إلى متابعة أحدث معدات التصوير الفوتوغرافي الغالية الثمن، والتي تتغير من سنة إلى أخرى.

و بما أنّ يدَ المصور وعينه انتقائيتان بالعادة، استمرت الطبيعة باستهواء عدستي منذ ستينيات القرن الماضي، لأن الطبيعة متكاملة الزوايا وتعطي الدقة التلقائية، كما أنها ليست بحاجة إلى إضاءة كهربائية".

تأثر "عيد" حسبما يقول، بالمصور الحسكاوي "جان" الذي وصل صيته إلى "لبنان"، حيث رافقت عدسته كبار الفنانين مثل "سميرة توفيق وصباح" وغيرهم، وكان من ضمن أحلامه اقتناء كاميرا كالتي يستعملها، وانقطعت أخباره منذ أكثر من ثلاثين عاماً.

ويشير "عيد" إلى الفروقات النفسية بين الأمس واليوم حول ماهية الصورة، التي تغيرت بدخول التعقيدات لمجتمعنا البسيط وبعد ستين عاماً من الخبرة، يقدم نصيحة لأي مصور مبتدئ، بأن الحس الفني غير كاف، عليه صقله بعمل دورات (فوتو شوب) ومتابعة التقنيات المستحدثة في عالم الصورة.

وحتى الآن يحتفظ بأجهزة الكاميرا التي استعملها في بداية مشواره ويرفض بيعها رغم العروض التي تنهال عليه من عشاق المقتنيات القديمة.

ذكريات

بدوره يقول الدكتور "إبراهيم مقدسي" وهو من مواليد 1944: "كثيرون لم يكونوا يعرفون التصوير في السابق، ولا ماذا تعني الصورة، أتذكر استوديو "أفاميا" جيداً بشكله القديم، وهو يعدُّ من ذاكرة المشتى التي وثقت عدسته الكثير من الأحداث، كنت أتمنى لو أنّ الكاميرا زارتنا عندما كنا أطفالاً، وصورت طفولتنا المريرة للجيل الحالي".

أما الشابة العشرينية "ريم غميض" التي لا تعلم الكثير عن مراحل تطور الكاميرا، أو بالأحرى خارج اهتماماتها، فمن وجهة نظرها تفضل كاميرا الموبايل بما تحتويه من برامج تصوير حديثة، وتحتفظ بالصور في كرت ذاكرة خاص بها، لأن اقتناء الألبوم الفوتوغرافي يأخذ الكثير من الوقت والحجم ناهيك أنه مكلف أيضاً.