يجلس الفنان "أكرم نازي" على سجادة قديمة متربعاً في منتصف خشبة المسرح محتضناً آلة "الطمبورة" القديمة، التي تكاد تختفي بين جسده الضخم وشاربه العريض لصغر حجمها، ليشكل لوحة تراثية كأنها آتية من رحم التاريخ البعيد، ليست فقط طريقة ظهوره على المسرح توحي لنا بالأزمنة القديمة فحسب، بل عزفه أيضاً، فهو لا يستعمل الريشة كباقي العازفين بل يستبدلها بأصابعه الخمسة، كل شيء في عمله الفني عبارة عن ملحمة آتية من التراث العريق.

الارتباط بالآلة

يقول "نازي" لمدوّنة وطن "esyria" عن البدايات: «بدأت العزف منذ نعومة أظافري، وأنا في السادسة من عمري، حين كنت أتسلل إلى غرفة جدي حيث آلة "الطمبور" لأعزف عليها ساعات طويلة، أسمع التسجيلات وأحاول تقليدها، وهكذا مع مرور سنة وأكثر بدأت أتقن العزف رويداً رويداً واشتد تعلقي أكثر بالآلة، وإلى اليوم ولعي بآلة الطمبورة كما هو وكأني في السادسة عمري ولم أهجرها يوماً».

في الفترة الأخيرة أنجزت مقطوعتين موسيقيتين فيهما تأثير الحرب وما رأيته من بشاعة هذه الحرب اللعينة التي عشتها في "حلب"، وما سمعته من أهلي في مدينتي "عفرين" أجسد فيهما بشاعة القتل من القوى الظلامية والإرهابية، وأيضاً لدي بعض القطع ألفتها سابقاً، مستقاة من إرث جدي الفني العريق

أصبح "نازي" مصدراً موثوقاً للتراث في منطقة "عفرين" عند الكثير من الموسيقيين، حيث يؤدي التراث بكل تفاصيله وبدقة، بعيداً عن التشويه مقتنعاً بقدسية ما تركه لنا أجدادنا، وهنا يقول: «لم يأت اهتمامي بالتراث من الفراغ ولست الوحيد المهتم بالتراث، بل أستطيع القول إن أجدادي اهتموا به لأن التراث الموسيقي هو التاريخ، فما من أغنية أو لحن جاءا من فراغ فلكل منهما حكاية وقصة وهذه القصص هي حتماً من نسجت تاريخ شعوبها ولذلك أتمسك به، ومن المعيب عندما تكون في محفل ولا تستطيع تقديم تراثك للآخرين، ولا سيّما أنني أخذته من آبائي وأجدادي، وأخذت منهم التقنيات العالية في العزف والذوق السليم وطريقة الأداء بالأصابع -من دون ريشة- الساحرة عند مس أوتار آلة الطمبورة التي تنتمي إلى تراثنا العريق وعمرها آلاف السنين».

على مسرح الأوبرا بدمشق

معزوفات من التراث

مكرماً في مهرجان آلة البزق

له محاولات في التأليف الموسيقي مستعيناً بالتراث ليستقي منه ألحاناً بالروح ذاتها، ويتابع بهذا الخصوص: «في الفترة الأخيرة أنجزت مقطوعتين موسيقيتين فيهما تأثير الحرب وما رأيته من بشاعة هذه الحرب اللعينة التي عشتها في "حلب"، وما سمعته من أهلي في مدينتي "عفرين" أجسد فيهما بشاعة القتل من القوى الظلامية والإرهابية، وأيضاً لدي بعض القطع ألفتها سابقاً، مستقاة من إرث جدي الفني العريق».

آلة الطمبورة التي استخدمت في شمال وشمال شرق "سورية" تصنع من شجر التوت أو الجوز عن طريق النحت، بمعنى أنها جسم متكامل لا وصلات فيها، الصدر بيضوي الشكل مفرّغ بدقة والزند أقصر من زند آلة "البزق" المعروفة، تحمل أربع عشرة علامة ووترين وأحياناً يكونان مزدوجين، وعن آلته يتحدث"نازي": «الآلة التي أستخدمها شكلها كما كانت منذ آلاف السنين، وآلة "الطمبورة" التي لا تستخدم فيها الريشة بل تعزف بالأصابع لها علاقة بالطبيعة والجبال، حيث كان يسكن الأكراد واستخدموها في طقوسهم، في "عفرين" كان هناك العديد من الأسماء البارزة التي عزفت على هذه الآلة أذكر منهم جدي "حسن" و"آديك" و"أبو محمد حاج ولو" و"محمد حاج ولو"، وجميعهم رحلوا عن دنيانا وتركوا خلفهم إرثاً عظيماً، للأسف اليوم ليس هناك غيري يعزف بأسلوب الأصابع حيث عزف الآباء والأجداد، لدي خوف بداخلي أن تموت هذه الآلة من بعدي، وكم حاولت تعليمها لبعض الشباب ولكن العزف المعاصر والحديث يستهويهم أكثر، لأحاول أن أنشر هذا الأسلوب خلال جلساتي الكثيرة في عموم "سورية" وأيضاً من خلال مهرجان آلة "البزق" في "دمشق" وغيرها من المسارح».

البدايات

دعوة ورجاء

وفي كلمة أخيرة يقول "نازي": «أتمنى للجميع السعي والاجتهاد في موسيقاهم وغنائهم الرصين لا الهابط، وأوجه كلامي لكل فنان، سواءً كان عازفاً، ملحناً، شاعراً غنائياً، أو مغنياً أن يبتعدوا في أعمالهم عن هذا الصخب، لأن إرثنا الثقافي يتعرض للنهب والتشويه كما أن الظرف اليوم يحتم علينا أكثر من أي زمن مضى أن ننهض بفننا وموسيقانا أمام العالم، لنرجع إلى تراثنا الغني بكلماته وألحانه، وأتمنى من الذين هم الآن في الساحة الفنية العالمية أن ينشروا الفن السوري الأصيل والملوّن سواءً كان عزفاً أم غناءً».

ينحدر "أكرم نازي" من عائلة فنية وأدبية عريقة يعود عمرها الفني إلى ما قبل القرن العشرين، وهو من مواليد "حلب" 1968 والده "عبدالقادر حسن نازي"، وجده "حسن نازي" وشقيق جده "عبدي شعري" والاثنان معروفان كفنانين وشاعرين كبيرين في جبل "الأكراد".