حظي منزل "الأفندي" في قرية "بشرائيل"، بخصوصية بناء ارتبطت بموقعه ومحيطه، وانعكست على رفاهية الإقامة التي مازالت مستمرة فيه منذ عشرينيات القرن الماضي...

فالمنازل التراثية في مطلع القرن الماضي لم تتعدَّ الغرفة الواحدة المبنية من الحجارة الغشيمة، أو ما يعرف بحجارة "الدبش" غير المشذبة، بينما منزل "الأفندي" لقيَ كل الاهتمام في هذا الجانب، وعنه يقول السيد "إبراهيم عيسى" مختار قرية "بشرائيل" التابعة لمدينة "صافيتا": «منزل الآغا أو ما كان يطلق عليه منزل "الأفندي" كان المنزل الوحيد في المنطقة المبني وفق نظام بناء المنازل الحديثة المغايرة لطبيعة المنازل الريفية التي عرفت مطلع القرن الماضي وما قبل، والمقتبسة من نظام العمارة الفرنسية التي دخلت مع دخولهم إلى البلاد، حيث كانت أغلب منازل المنطقة متواضعة بحجمها وطريقة بنائها، إلا أن هذا المنزل بضخامته وطبيعة بنائه أضفى صفة الرفاهية على المنطقة، لكونه بني بإشراف خبراء فرنسيين حددوا الموقع وطريقة البناء، ونظموا المحيط من حوله مطلع العشرينيات، أي ما يزيد على 100 عام، كما تحدث الأجداد».

لقد جُمعت الحجارة التي بني منها المنزل من البيئة البرية الطبيعة المحيطة بالقرية، وهذه الحجارة من نوع الحجر الكلسي الأبيض، إضافة إلى أن مواد البناء الأولية جهزت في القرية أيضاً، ضمن "التون" الكلس المخصص لشوي الحجارة الكلسية وتفتيتها، ومن ثم استخدام بودرتها كمادة أساسية للبناء

ويضيف: «فبعد عملية بحث طويلة عاصرها بعض أجدادنا ورووها لنا، لم يجد هؤلاء الخبراء مكاناً مناسباً لبناء منزل "الأفندي" مالك المنطقة بكاملها مع قراها وسكانها، سوى هذا المكان الحالي له، المطل والمشرف على كامل المنطقة، وضمن غابتين من الأشجار؛ الأولى طبيعية والثانية صناعية مشجرة بفعل أبناء المنطقة، لتزيد من رفاهية الإقامة في هذا المنزل».

الطبقة الثانية من المنزل والفسحة أمام الغرف

السيد "لؤي عيسى" من أبناء القرية يقول: «كان الهدف من بناء منزل الأفندي "جابر العباس" ابن قرية "الطليعي" الواقعة على نهر "الأبرش" والمشرفة على "سد الأبرش" حالياً، الاستجمام والترفيه وقضاء الأوقات الصيفية المريحة، ومتابعة الأعمال الإدارية لأملاكه وأرزاقه، فالموقع بحد ذاته سياحي بامتياز، لإطلالته الرائعة على محيطه الشاسع، من على أعلى قمة جبلية واسعة المساحة، وقد اختير الموقع بعناية فائقة، لأن الأفندي "جابر العباس" كان يعاني على ما أعتقد من ضيق تنفس أو ما يعرف بمرض "الربو"، لذلك كان هذا الموقع المرتفع والمطل، إضافة إلى أنه كان إلى جواره غابة صغيرة من أشجار السنديان المعروفة بقدرتها على تنقية الهواء بشكل جيد، ناهيك عن المكانة المميزة التي تم العمل عليها صناعياً بإشراف هؤلاء الخبراء، وبأيدي فلاحي المنطقة، الذين غرسوا مختلف أنواع الأشجار المثمرة واعتنوا بها بالشكل الأمثل؛ لمحبتهم لهذا الأفندي الذي عرف بكرمه وطيبته، ولتزيد من المنزل قيمة وجمالية وراحة نفسية، وهذا ما جعل المنزل قيد الاستخدام حتى وقتنا الحالي».

وعن طبيعة المنزل وتفاصيله يقول السيد "عصام أحمد" من أبناء القرية: «بُني المنزل بالعموم كبداية من طبقة واحدة تتألف من أربع غرف كبيرة فسيحة من الداخل ورحبة، وصالونين لاستقبال الضيوف، وهذه الغرف من الداخل لها شكل القناطر الحجرية، وهي من الحجارة الضخمة المشذبة بطريقة فنية رائعة وفق نظام بناء العقد الحجري المميز، وكان هذا النظام من أوائل أنظمة البناء الحديثة في المنطقة، ومن ثم تم بناء طبقة ثانية للمنزل، تتألف من عدة غرف خصصت للمنامة والإقامة الشخصية للأفندي وعائلته».

موقع المنزل على قمة الجبل

ويتابع عن طريقة البناء والتعاون لإتمام تلك المرحلة: «لقد جُمعت الحجارة التي بني منها المنزل من البيئة البرية الطبيعة المحيطة بالقرية، وهذه الحجارة من نوع الحجر الكلسي الأبيض، إضافة إلى أن مواد البناء الأولية جهزت في القرية أيضاً، ضمن "التون" الكلس المخصص لشوي الحجارة الكلسية وتفتيتها، ومن ثم استخدام بودرتها كمادة أساسية للبناء».

أما السيد "أحمد عيسى" فيقول: «المنزل في منتصف القرية على أعلى قمة جبلية مطلة مكشوفة على كامل محيطها، وواجهته الأساسية نحو الجهة الغربية تماماً باتجاه البحر، وهو على الطريق القديم الواصل بين مدينة "صافيتا" وناحية "مشتى الحلو"؛ الذي شق لأجله، وحول المنزل كان يوجد كرم يسمى "كرم العمارة" فيه جميع أنواع الفواكه والخضار، كما كان يوجد باتجاه الغرب بعد هذا "الكرم" في منطقة "الدقارة" غابة طبيعية من أشجار السنديان العملاقة، وقد نالت أهمية كبيرة بالتقليم والعناية الزراعية من قبل عمال الأفندي "جابر" لما لها من عامل مهم في تنقية المناخ العام للمنطقة، أما بالنسبة إلى مساحة المنزل فقد وصلت إلى ما يقارب 400 متر مربع، نتيجة تصميم الغرف الضخمة من الداخل، التي لها انعكاس نفسي يمنح الرحابة الجيدة للجالس فيها، في حين أن ارتفاعه عن سطح البحر يصل إلى نحو 580 متراً، وهذا أيضاً أخذ بعين الاعتبار بحسب اعتقادي الشخصي ليتناسب مع أهمية المنزل، وكان يوجد أمام المنزل ساحتان تسمى كل منهما "صيوان" خصصت إحداهما للفلاحين والأخرى للضيوف، كما كان بالقرب من المنزل ساحة كبيرة تسمى "الشونة" مخصصة لوضع المحاصيل الزراعية، إضافة إلى بئر عربية منحوتة بالصخر الكتيم ومخصصة لمياه الشرب، وجميع هذه الأمور تدل على تقانة البناء وأهميته وتكامله المعماري».

المختار إبراهيم أمام منزل الأفندي