يطلق عليه اسم نهر "جوبر"، أو نهر "البستان"، وأسماء محلية أخرى بجوار كل قرية يمر بها، فكل منها تريد نسبته إليها، إلا أن الجامع المشترك لكل هذه الأسماء أن مياهه تحتضن ذاكرة لتاريخ يمتد لآلاف السنوات ولحضارات عدة.

ينبع نهر "جوبر" من عدة ينابيع جبلية، تقع في سفح التقاء هضبة بلدة "العنازة" وقرى "نحل" و"العليقة" و"الغنصلة"، وكلها تتبع إلى منطقة "بانياس"، وتتوسط ما يسميه الناس هنا "وادي جهنم"، وسبب تسميته "وادي جهنم" يعود إلى عمق الوادي الشديد وانحداره الأشد، خاصة من جهة منطقة "القدموس" التي يطل عليها، وليس معروفاً سبب تسمية النهر بهذا الاسم.

من أهم الينابيع التي تغذي النهر على الإطلاق، نبع "كاف العسل"، كما يقول السيد "قيس إبراهيم" الموظف في دائرة مياه قرية "بستان الحمام"، في حديث مع مدونة وطن “eSyria” بتاريخ 12 شباط 2014، وهذا النبع تتدفق مياهه العذبة في مجرى النهر مكونةً أبرز مغذياته، وتبلغ غزارة النبع أكثر من 150متراً مكعباً في الدقيقة شتاءً تنخفض صيفاً إلى ما بين 60-80 متراً، وقد بنيت عليه محطة لمياه الشرب تغذي قرى ريف بلدة "العنازة" ومناطق أخرى، ومياه الشرب التي تستجر منه، على درجة عالية من النقاء والعذوبة واليسر، وتتدفق على النبع الذي مياهه من صخور كلسية بيضاء مغطاة حالياً بأشجار السنديان والقطلب والشربين وغيرها.

مسار النهر

وهناك أيضاً عدة ينابيع أخرى تغذي النهر على طول مجراه، بعضها لا يقل غزارة عن نبع "كاف العسل"، مثل "عين الحصيدة" التي تنفجر غزارتها أواسط الصيف، ومثل نبع "صالح" الواقع بجوار قرية "الغرزية"، وقد أقيمت عليه هو الآخر محطة لمياه الشرب، تغذي ريف "القدموس" وبعض مناطق ريف "بانياس".

يمر النهر في ترحاله بجوار عدة قرى حديثة النشوء، يرجع أقدمها إلى بضع مئات من السنين، هي على التوالي: "العنازة، الغرزية، بستان الحمام، الحرف، دير البشل". ومن الجهة الجنوبية الموازية: "البلوطية، وكعبية فارش، والزللو"، وبعد أن يصل إلى قرب قرية "الزللو" يتابع إلى البحر مجاوراً مصفاة النفط في "بانياس"، التي تستجر منه بعض المياه لاستخدامها في التبريد والتنظيف.

من مواقع السباحة الصيفية

ويبلغ طول النهر ما يقارب خمسة عشر كيلومتراً، يبقى النهر فيها جارياً صيفاً شتاءً، ولكن تخف غزارته كلما اقتربنا من بداية الخريف.

تتفاوت أعماق النهر، وغزارته، وسهولة جريانه، حسب المسار الذي يمر فيه، فهو ينحدر في بعض الأماكن الصخرية مشكلاً شلالات صغيرة، وأعمق منسوب للنهر يبلغ 3 أمتار، يضع عليها الأهالي مضخات لنقل المياه إلى المناطق العالية بجوار النهر لاستخدامها في الزراعة وسقاية المزروعات، ومن أهمها الخضراوات الصيفية والتبغ والأشجار المثمرة، وينخفض العمق إلى بضعة سنتيمترات في مناطق أخرى كلما اقتربنا من المصب.

وادي جهنم

القرى التي بنيت على ضفاف النهر في الأزمنة الغابرة، هجرت كلها، على الأرجح بسبب فيضان النهر الذي يذكره المسنون هنا بقولهم إنه كان يكتسح في طريقه الأشجار والبيوت والحيوانات، ويلاحظ المهندس "شادي عموم"، من مديرية زراعة "بانياس"، وجود آثار استيطان بشري قديم على ضفاف النهر، تجلى بالعثور على عدة مقابر محفورة في الصخر تعود إلى العهد الفينيقي والروماني، وأخرى أحدث عهداً، إحداها تقع على بعد أمتار قليلة من مجرى النهر، ويحدث فيضان النهر عادة بعيد انتهاء موسم الأمطار، مع ذوبان الثلوج في الجبال التي تغذي مياهها الباطنية النهر، كجبال "العليقة، والغنصلة، والدردارة".

يتوافر في النهر العديد من أنواع الأسماك المتفاوتة الحجوم، وأكثرها صغيرة، كذلك يوجد نوع من "الحنكليس" النهري، ويمارس بعض الناس الصيد في مواسم المطر الغزير، حين يتوافر للأسماك البيئة المناسبة للنمو، كذلك تتوافر مختلف أنواع الطيور المقيمة والمهاجرة على ضفاف النهر، وبعضها بسبب تعرضه للصيد الجائر اختفى تقريباً، مثل نوع يطلق عليه محلياً اسم "دجاجة الماء"، وهو طائر يعيش على الأدغال على ضفاف النهر.

وبسبب سهولة الوصول إلى النهر من عدة محاور، ووجود طرق معبدة معتنى فيها، سواء من جهة "القدموس" (من قري البلوطية) أم "بانياس" (بستان الحمام) فقد نشأت على ضفافه عدة متنزهات محلية ومطاعم وأماكن للاستراحة الشعبية، إضافة إلى وجود أماكن للسباحة يزيد عدد مرتاديها على بضعة آلاف صيفاً، من أهمها: "دوار علي سعادة، الضييق، الديوي"، ويستخدمها للسباحة أبناء القرى المجاورة ومدينة "بانياس" أيضاً.

من أهم المعالم التي يمر بها النهر عبر مساره، عدة طواحين مائية قديمة متهدمة، كان يتم فيها استغلال غزارة المياه لطحن الحبوب وصناعة الطحين، وتعد طاحونتا "غانم"، و"الشيخ محمد"، آخر الطواحين التي لا تزال محافظة على هيكلها الخارجي، وتقع الأولى في منطقة نصف النهر الجنوبي، في حين تقع الثانية في الجزء القريب من قرية "الغرزية"، ويمكن الاطلاع على معلومات أوسع في المدونة عن هاتين الطاحونتين.

أجريت دراسة فنية وجيوفيزيائية قبل عدة سنوات لبناء سد على النهر، وحسب المهندس "علي حميدان"، فإن عدم إمكانية تنفيذ هذا السد ترجع إلى أسباب تتعلق بخصائص التربة غير الكتيمة في النقطة المناسبة لبناء السد، وهي تقع قرب موقع "الضييق"، وهو موقع صخري كلسي، يوجد عنده أيضاً أحد الينابيع التي تغذي النهر.

يذكر أخيراً أنه بنيت على النهر عدة جسور لتسهيل الانتقال بين طرفي النهر والقرى المتقابلة، بعضها قديم جداً، وبعضها الآخر بني في زمن الاحتلال الفرنسي لـ"سورية"، ويقع آخر جسر مازال محافظاً على بقاياه قرب منطقة نبع "كاف العسل".