"بعدها متل ما هيي" هكذا قالت الخالة أم غسان وهي تمسح عينيها وتنزل الدرج الذي نقل الحضور من بلاط الملكة، إلى عالم الأحلام التي لا تنتهي.

تروي لنا أم غسان الستينية عن حفلات فيروز أيام معرض دمشق الدولي، وتستذكر كيف كانت متألقة شامخة، وتدمع عيناها وتستند إلى ذراع ابنتها وتكمل نزول الدرج.

لم يكن صباح الاثنين 28/1/ يشبه باقي صباحات دمشق، فرائحة العطر كانت أقوى، والياسمين من تلقاء نفسه انعقد عقوداً وأساور غريبة الأشكال والألوان.

بطاقات الحب الدمشقية إلى السيدة فيروز

عند السابعة من مساء العرض الأول كانت دار الأوبرا تكتب أجمل خبر، فاليوم سترفع الستارة وستطل عصفورة الشمس، صفوف طويلة منتظرة والكل ينظر إلى عقارب الساعة، ودخلنا قاعة الأوبرا وبدأ الموعد يقترب.

"ليست دمشق وحدها بل سورية كلها نبضت بالحب ككل صباح، وعلى صوت أغانيها لم نشرب قهوتنا كالعادة لأننا أجلنا كل عاداتنا"، هكذا قال أمجد الذي جاء من طرطوس مع أصدقائه، ويخبرنا أنه جاء إلى دمشق قبل أيام للحصول على التذاكر، ولأربع ساعات طال انتظاره لكن يكفيه أنه سيراها".

الطفل منار بأعوامه الأربعة عشر جاء مع أبويه، همس لي قائلاً: "أنا بحبا كتير، وماما كل يوم بتفيقني على صوتها"، وابتسمت أمه التي همست لي: "وماما كمان كانت تفيقني على صوتها".

للمرة الأولى يقف المصطفون بهدوء، والكل يبتسم للكل، وكأنهم عاشوا معاً، لعبوا، كبروا، حلموا، حقاً كانوا جميعاً فيروزيّي الهوى.

عشاق فيروز بعد انتهاء العرض المسرحي

قبل أن ترفع الستارة بدقائق سألت الصبية الجالسة بقربي شعورها، ضحكت وأفحمتني قائلة: "لشو الحكي طالل علينا قمر"، وأطل القمر، وكانت فيروز هذه المرة تغني لنا.

الأضواء خفتت، الستارة الحمراء بدأت بالانحسار، لتلمع من ورائها المملكة، فعلا التصفيق، ها هي الملكة واقفة بفستانها سكري اللون، بدأت ملامحها تتوضح، هذا شعرها، منسدل من تحت الشمسية، ويكفي أن يبين ظهرها لنستدل عليها، هي فيروزنا.

أدارت قرنفل ظهرها وبان الوجه علينا، وغرقت دار الأوبرا بالتصفيق، الذي لم يتوقف طوال المسرحية، ولكل أغنية حكاية، غنت فيروز "يلا ينام يلا ينام لدبحلو طير الحمام، التشت شي والتشت شي" وردد الحضور كلمات الأغنية التي لطالما أغفوا عليها "وكل ما يهب الهوا توقع للحلو مشمشة".

لا تسألوا كيف مرت الدقائق التسعون، لأن حالة التماهي لا توصف بكلمات، فمن العبث توثيق نظرات العيون، معانقة الأكف، الدمدمات، الهمسات، الدمعات، ووجيف القلوب.

لم يكن أحد يرغب بمغادرة المسرح، لكن السيدة لوحت مودعة، وخرجنا حاملين نشوة اللحظة.

كانت كاميرات التلفزة تنتظر الحضور في بهو دار الأوبرا لتسجل الرؤيا، لكن الكلمات اختنقت فكان الدمع أصدق التعابير.

يقول أمجد: "الليلة شي ما بيتصدق، شكراً فيروز، شكراً فيروز"، وذهب بدوره إلى بهو القاعة الحاضنة لصور فيروز وعاصي، ليكتب رسالة إلى السيدة.

نعم 1200 شخص كتبوا رسائل في لفتة ولا أجمل قام بها شباب "أصدقاء فيروز" وهم مجموعة من الرسامين اقترحوا على الدكتور نبيل اللو إقامة معرض صور مرافق لعروض المسرحية، إضافة لطباعة بطاقات أنيقة حملت على غلافها صور "فيروزنا" أما الوجه الخلفي فكان معداً للكتابة عليه، هي صور ورسائل مهداة لفيروز، حيث سيتم تقديمها لها في اليوم الأخير، نعم.. ستحمل فيروز كلماتنا وستقرؤنا متى شاءت.

هذه المبادرة أضفت جواً ساحراً، حيث اجتمع الحضور في البهو قرابة الساعة يكتبون، يتفرجون، ويبوحون بأسرارهم على البطاقات.

السيد ناصر منذر صاحب المبادرة كان واقفاً، ويؤكد لكل السائلين رسائلكم ستصل هكذا وعدنا محامي السيدة فيروز، وعن مبادرتهم قال: "فيروز قدمت لنا الكثير، ففكرنا بهدية، فكان المعرض وفكرة الرسائل"، فأجابه أحد الواقفين: لا نعرف هل مبادرتكم هدية لها أم هدية لنا؟

تسعون دقيقة كانت في حضرة السيدة، كانت لنا، ومعنا، وبنا تتألق، ورافقنا ضوءها إلى بيوتنا، غفونا بسرعة هذه الليلة ، وفي صباح اليوم التالي شربنا قهوتنا وسمعناها كعادة كل يوم، لكن هذه المرة كان الصوت أشهى.

بقي سؤال يداعبني هل غنت فيروز في قلبها وهي تلوح لنا "بكرا برجع بوقف معكن"؟.