ما زال "تنّور الحفة" الشرقي الواقع في قرية "السميحيقة" يجسّد تاريخاً قديماً محفوراً في ذاكرة كل أبناء القرية، وسجلاً يحتفظ بكل حكاياتها القديمة التي ما زالت تروى إلى الآن، وخاصة تلك الفترة التي عانى فيها الأهالي بطش المحتلّ العثماني.

فمنذ أن بنيت قرية "السميحيقة" قبل ما يزيد على ثلاثمئة واثنين وعشرين عاماً، قام الأهالي ببناء تنّورين؛ الأول "تنور الحفة الغربي" الأثري الذي بني بطريقة العقد الحجري، و مع مرور الزمن تهدّم ولم يعد مستثمراً. والثاني "تنور الحفة الشرقي"، الذي ما زال شاهداً على تاريخ القرية، ورمزاً لقوتها وكرمها وجود أهاليها.

مازال التنّور مملوكاً منذ تأسيسه من قبل جميع أهالي "السميحيقة"، حيث يقومون بجمع الحطب ووضعه إلى جانب التنور المحمي تحت الجرف بصرف النظر عن أي شخص سيستخدمه، وبهذا مازال يمثّل رمزاً للتعاون والكرم في القرية

مدونة وطن "eSyria" التقت بتاريخ 3 كانون الثاني 2017، الصيدلاني "رائد علي غنام" من أهالي "السميحيقة"، ليحدثنا عن تاريخ هذا التنّور، حيث قال: «منذ أن قام الشيخ "غنام" وهو جدّ القرية الأول بتأسيسها قبل مئات السنين، سارع الأهالي إلى بناء تنور في منطقة الحفة الشرقية حيث، بني مباشرة فوق بيوت القرية القديمة المتلاصقة؛ لأغراض الحماية أثناء الاحتلال العثماني، وقد كان "تنور الحفة الشرقي" ملكاً لجميع الأهالي، وعاملاً أساسياً ساهم في تحقيق الاكتفاء الذاتي لأهالي القرية؛ فأصبح يمثّل رمزاً حقيقياً للاستقلالية».

الخبز على التنور

وعن موقعه، يقول: «يقع في القسم الجنوبي من القرية الحالية، وفي أعلى البيوت القديمة للقرية، وما يميّزه هو وجوده تحت جرف صخري من الحجر الكلسي "الدولوميتي"؛ وهو ما شكّل له حماية طبيعية من عوامل الطقس المختلفة، ووفر على الأهالي مجهود بناء غرفة للتنور، ويمتد هذا الجرف على مسافة خمسمئة متر موازياً لأحد الطرق الرئيسة في القرية، وعلى ارتفاع يصل إلى عشرة أمتار في بعض أجزائه التي تحيط بها شجيرات الصبار من مختلف جهاتها».

ويضيف: «مجرّد الاجتماع عند "تنّور الحفة" كان يعدّ بالنسبة لنا عندما كنّا صغاراً احتفالية وفرحاً، وعيداً لكونه سيجمع الأهل والأقارب لينال كلّ حصته من منتجاته من خبز وفطائر متنوعة وشهية؛ وهذه من ذكريات الطفولة التي لن تمحى من ذاكرتي أو من ذاكرة أي أحد من أبناء القرية».

التنور في قلب الجرف

أما "سهيل غنام"، وهو موظف يسكن بالقرب من "تنور الحفة الشرقي"، فيقول: «على الرغم من التطور الحضاري والتكنولوجي الذي نعيشه في وقتنا الحالي، إلاّ أن الأهالي ما زالوا متمسكين بأصالتهم وتراثهم؛ خاصةً في المدة الأخيرة في ظل ما تعانيه البلاد من انعكاسات للحرب؛ فكان لـ"تنور الحفة" القديم الدور الأكبر؛ نتيجة عوامل عديدة، نذكر من أبرزها قلة توافر الوقود، وأيضاً يبرز دوره وأهميته في حالة انقطاع الطرق بين المناطق بسبب عوامل الطقس التي فرضها مناخ المنطقة الجبلية؛ فكان وما زال حتى اللحظة الملجأ الرئيس للأهالي لتأمين خبز يومهم ولقمة العيش بنكهتها الريفية الأصيلة».

ويكمل: «مازال التنّور مملوكاً منذ تأسيسه من قبل جميع أهالي "السميحيقة"، حيث يقومون بجمع الحطب ووضعه إلى جانب التنور المحمي تحت الجرف بصرف النظر عن أي شخص سيستخدمه، وبهذا مازال يمثّل رمزاً للتعاون والكرم في القرية».

سهيل غنام

في الماضي كان "تنّور الحفة الشرقي" يمثّل منبراً إعلامياً لأهالي المنطقة من خلال اجتماع "نساء التنور" لإعداد الخبز، حيث كنّ يتبادلن الأحاديث والأخبار، ولكل منهنّ ذكرياتها المتعلقة في ذلك، تماماً كالجدّة "عليا خليل عروس"، التي كانت دائمة الحضور عنده، ولحكاياته نصيب كبير في ذاكرتها، فتقول: «في الماضي كنّا نعدّ الخبز يومياً، فكان "تنور الحفة" العتيق يعدّ الوسيلة الوحيدة لصنع خبز يومنا ومنتجات أخرى من العجين، أما حالياً، فاستخدامه يقتصر عندما يريد أحد الأهالي تقديم واجب الضيافة لضيوف أعزاء فيكرمهم بخبزه، وفي بعض المناسبات الشعبية الخاصة والمعروفة في المنطقة الساحلية بوجه عام، كإحياء ميلاد السيد "المسيح" الذي يصادف موعده في 13 كانون الثاني؛ فنجتمع عنده لإعداد خبز خاص بهذه المناسبة في طقوس اجتماعية ريفية تتميز بالمودّة، التي لم تتغيّر من الماضي وحتى يومنا هذا».