وعاء مصنوع يدوياً من "الكاوتشوك" ارتبطت به الكثير من القصص والذكريات التي تأبى النسيان في ذاكرة من عاصره وحمل فيه المياه على ظهر المواشي، حتى بات يخلد مع تلك الذكريات قصص المياه العذبة.

يعدّ "الراوي" كما كان يطلق عليه في العرف والذكريات التراثية التي حملها لنا أجدانا القدامى، كمخزون فكري عن حجم المتعة الممزوجة بالمعاناة وخاصة بالنسبة للسيدات الموكلات باستخدامه عبر جمع المياه فيه ونقلها من الأماكن البعيدة حتى منازلهن الحجرية التراثية، حيث قالت الجدة "دعد زيدو" من أهالي قرية "شمسين" في ريف مدينة "بانياس" لمدونة وطن "eSyria" بتاريخ 29 تشرين الثاني 2015: «هي ذكريات جميلة، لكنها مثقلة بالتعب الناتج عن حجم المعاناة التي كنا نتحملها جراء عملية جمع المياه وإحضارها من النبع حتى المنزل، حيث كان من المفترض على كل سيدة جمع ما يعادل ثلاث تنكات من المياه في "الراوي" مرتين في اليوم تقريباً، لأن استخدامات المياه أساسية وضرورية في كل يوم عمل في الحقل، فقد كنا نقصد النبع مجموعة من الشابات، وكل منا تقود حمارها وعلى ظهره "الراوي"، لأنه من الصعب علينا حمله على رؤوسنا كما الجرة الفخارية، ومع هذا كانت متعة الطريق وما تشوبه من متاعب جميلة تنال اهتمامنا، وكنا نبادر إلى التبرع بفرض أنفسنا لهذه المهمة.

لقد كان هذا "الراوي" فرصة للمعيشة بالنسبة لبعضهم، وأذكر أنه في عام 1976 اختص بعض شبان قريتي من بعض العائلات العمل بنقل المياه من نبع "عين السريجيات" وحتى منازل القرية؛ وهو ما سهل عملية زراعة حدائق المنزل بالخضار المنزلية، ووفر المنتج المحلي كالبقدونس والسلق والفجل والبصل

المهم في الأمر أننا كشابات كنا نكوّن مجموعات صغيرة لنتبادل الأحاديث والسير خلال ذاك المسير بين أحضان الطبيعة، كما كنا نتمنى أن يطول الطريق وتقف الساعات للمتعة والنشوة، فكل منا تخبر صديقاتها بمجريات حياتها اليومية وما طرأ عليها، وخاصة فيما يتعلق بالأمور العاطفية، حيث كان هناك الكثير من علاقات الحب المنتهية للزواج تولد على تلك الينابيع خلال عملية تعبئة "الراوي" بالمياه، أي إن الفضل بنجاح الكثير منها يعود إلى "راوي" المياه، وأنا إحدى الشابات التي ارتبطت بزوجها بعد قصة حب أساسها تعبئة المياه بالراوي والرحلة والمتعة المرافقة له».

دعد زيدو

وفي لقاء مع الشاب "نمير محمد" المهتم بالتراث قال: «كان يصنع هذا "الراوي" من "الكاوتشوك" المقاوم للصدمات، لذلك كان عمره مديداً وبقي محافظاً على وجوده حتى يومنا هذا، فهو يختلف عن جرة الفخار غير المقاومة للكسر، وهي مخصصة للخدمة في مواقع وأماكن شبه ثابتة على خلاف الراوي الذي يمكن نقله وحمله بسهولة من دون الخوف عليه من الكسر أو غيره، وبحسب معلوماتي كان يصنع في الريف الساحلي ضمن بعض القرى؛ منها "دوير رسلان" و"القصبية"، أي إنه كان وليد الحاجة، لذلك صنع محلياً ملبياً لحاجته.

فهو يصنع من "الكاوتشوك" الثخين، حيث تجمع قطع الكاوتشوك بعد قصها وتشذيبها وفق مقاسات محددة بعضها مع بعض بواسطة قطع معدنية تسمى "تباشيم"، وعند تعبئة "الراوي" بالمياه تضغط القطع على بعضها فتغلق الثقوب بإحكام بفعل ذلك الضغط، ويمكن أن يتسع لكمية كبيرة من المياه تزيد على الكمية التي تتسع لها الجرة الفخارية بمرتين، لذلك شاع استعماله في الريف الساحلي، كما أن عملية حمله ونقله كانت أسهل بكثير بواسطة الحمير».

نمير محمد المهتم بالتراث

المعمر "إبراهيم سليمان" من أهالي وسكان قرية "وادي البركة" في ريف مدينة "بانياس" قال: «لقد وجد "الراوي" نتيجة بعد ينابيع المياه عن السكن وهو ما أدى إلى صعوبة نقلها، وقد سهلها توفر "الراوي" بين أيدي النساء، وأذكر أن بعضها كان يخاط بخيوط القنب المشمعة بشمع العسل، لمنع تسرب المياه منه، والجميل في هذا الوعاء أنه كان عندما يوضع على ظهر الدابة يحتضنه بشكل مريح لها من الأعلى وحتى الجانبين، فيخف وزنه ويسهل حمله على الرغم من وزنه الثقيل».

أما المعمر "منذر علي" من أهالي وسكان قرية "بيت الكرم" التابعة لمدينة "الدريكيش" فقال: «لقد كان هذا "الراوي" فرصة للمعيشة بالنسبة لبعضهم، وأذكر أنه في عام 1976 اختص بعض شبان قريتي من بعض العائلات العمل بنقل المياه من نبع "عين السريجيات" وحتى منازل القرية؛ وهو ما سهل عملية زراعة حدائق المنزل بالخضار المنزلية، ووفر المنتج المحلي كالبقدونس والسلق والفجل والبصل».

راوي المياه