دخل الدكتور "جورج وسوف" عالم الترجمة بعيداً عن اختصاصه العلمي بطريقة تدعو إلى الدهشة، متسلحاً بروح أدبية قديمة مكّنته من الغوص في أدبيات عالمية بجهد ذاتي لا يستطيع الكثيرون امتلاكها بسهولة، فالحياة من دون إبداع حالة من الضياع المجاني.

خط حياته الأدبية من خلال اللغة الإسبانية التي اكتسبها من دون أن يزور منبع اللغة الأم، ليترجم عوالم واحداً من أعظم أدباء العالم، بعد تجربة علمية في اللغة الإنكليزية، فأثبت بوقت قصير قدرة تخيلية راقية، ولغة متطابقة مع الروح الموجودة بين دفتي الكتاب الأصلي.

الحقيقة تربيت بجو علمي بحت؛ فأبي مدرّس رياضيات من الجيل القديم، وحاصل على دبلوم من الخمسينات، وبلدتي "السودا" تتميز بأن الجميع فيها متعلم، وهذا كان له دور مهم في تكويني، مع أنه في طفولتي المبكرة لم أكن ميالاً إلى الأدب، الذي ظهر متأخراً نسبياً. ونصيحتي لأي مشتغل بالترجمة الأدبية أن يدخل في جو الرواية تماماً، ويعدّ نفسه مؤلفاً من جديد، وأن يضخ في نصه المترجم حيوية لغوية بعيداً عن الترجمة الحرفية، فهي حالة ولادة جديدة للنص الأصلي

مدونة وطن "eSyria" تواصلت بتاريخ 28 آذار 2018، مع المترجم الدكتور "جورج وسوف"، ليتحدث عن صنعته الإبداعية الجديدة، وكيفية امتلاكه لها، فقال: «كانت لدي ميول قديمة، إلا أن البدايات ظهرت في مرحلة الدراسات العليا، عندما كنت أقوم بترجمة بعض المقالات العلمية، وأجزاء من كتب طبية. الترجمة عمل خلاق، لكنها في الوقت نفسه عمل مضنٍ جداً، وقد يشعر المترجم بالملل في كثير من الأحيان. فمن المهم أن يتقن المترجم اللغة الأجنبية التي يترجم منها بكل مخرجاتها وروحها، والأهم من ذلك أن يتقن اللغة العربية، ففي حالات كثيرة قد يفهم المترجم الفكرة لدى قراءة النص، لكنه يعجز عن التعبير عنها باللغة العربية الأم.

كتابه الأول المشترك في الترجمة

يجب أن يكون أيضاً واسع الثقافة، لفهم الأفكار المذكورة في النص الأصلي، والتعبير عنها؛ فترجمة مصطلح ما من القاموس بطريقة جامدة قد لا تقدم للقارئ الفائدة المرجوة، وفي حالات كثيرة قد يتطلب فهم كلمة أو مصطلح معين بحثاً طويلاً في القواميس أو شبكة الإنترنت. ومن المترجمين للأعمال العالمية شدني أسلوب المترجم "صالح علماني"، الذي يتميز بنص سهل القراءة، وأظنّ أنه مطابق للنص الأم».

وعن أول عمل قرر المغامرة والبدء بترجمته، قال: «أول عمل هو كتاب Year book of dentistry أو "الكتاب السنوي لطب الأسنان"، وقد ترجمته من اللغة الإنكليزية بالمشاركة مع أحد أساتذة الكلية، وكان اختيار الكتاب لقيمته العلمية الكبيرة، وهو كتاب علمي خاص بطب الأسنان قمنا بترجمته وإعادة إعداده من جديد، وكانت انطلاقة جيدة وموفقة نظراً للجهد والتعب الذي بذلناه لإنجاز الكتاب، إضافة إلى رغبتي بالانطلاق في هذا المجال. وكانت بداية التعرف إلى الكاتب المبدع "فواز عزام" صاحب دار "هدوء" للنشر والتوزيع، الذي تصدى لطباعة رواية "ليس للعقيد من يكاتبه"، وكانت بداية التقارب الفكري بيننا على الرغم من بعد المسافة».

رواية ماركيز

أما لماذا فكر بترجمة أدب "ماركيز" عن اللغة الإسبانية؟ فأجاب: «اهتمامي بالأدب اللاتيني ومحبتي لهذا المبدع هما السبب، في البداية انتابني شعور بالإرباك والخوف أن تكون بداية الأعمال الأدبية لكاتب عملاق مثل "ماركيز"، لكن هذا الشيء نفسه أعطاني دافعاً قوياً. هذه الرواية بسيطة، لأنها العمل الثاني له، وتعبر كثيراً عن جو الفقر والعناء الذي كانت تعيشه "أميركا اللاتينية" في تلك المرحلة خصوصاً، نقلها "ماركيز" بكل عفوية، بعيداً عن التصنع، بأسلوبه الوصفي التصويري الذي اشتهر به. هي رواية حوارية في أغلبها، ولم أجد الكثير من الصعوبة؛ لكونها قريبة من لغة الحديث اليومي، باستثناء بعض الجمل والتراكيب والمفردات المبهمة، التي تطلبت مني البحث والتمحيص لتحليلها؛ لكونها تخصصية في بعض الأحيان.

يوجد تلاقٍ نوعاً ما بين اللغتين العربية والإسبانية، ولعل ذلك يرجع إلى الظروف التي مرت بها "إسبانيا" والشعوب اللاتينية، والتي تشبه الظروف التي مر بها العرب، إضافة إلى الحقبة "الأندلسية"، وما حصل فيها من تفاعل بين الثقافتين واللغتين.

الروائي والناشر فواز عزام

وللعلم، لم أطأ "إسبانيا" أو أي بلد لاتيني، تعلمت بنفسي تعليماً ذاتياً؛ وهو أمر قد لا يصدقه بعضهم. وعملي الثاني لا يخرج من هذه الأجواء، وأعكف الآن على ترجمة الرواية الأولى لذات الكاتب، وهي غير مترجمة أيضاً اسمها "أوراق الخريف"».

وعما يميز طفولته والجو العام الذي نشأ به، يضيف: «الحقيقة تربيت بجو علمي بحت؛ فأبي مدرّس رياضيات من الجيل القديم، وحاصل على دبلوم من الخمسينات، وبلدتي "السودا" تتميز بأن الجميع فيها متعلم، وهذا كان له دور مهم في تكويني، مع أنه في طفولتي المبكرة لم أكن ميالاً إلى الأدب، الذي ظهر متأخراً نسبياً. ونصيحتي لأي مشتغل بالترجمة الأدبية أن يدخل في جو الرواية تماماً، ويعدّ نفسه مؤلفاً من جديد، وأن يضخ في نصه المترجم حيوية لغوية بعيداً عن الترجمة الحرفية، فهي حالة ولادة جديدة للنص الأصلي».

الروائي "فواز عزام"، قال عما وجده في أعمال "وسوف": «الدكتور "جورج"، من خلال تواصلي معه بعد القراءة الأولى لمخطوطه المترجم، بدأت أكتشف كم هو حريص على العمل الذي بين يديه، ودقيق أيضاً في التعامل مع الكلمة في اللغة الأصل؛ وهذا نابع من مهنته في الطب، ويفتح باباً آخر فيه بعض الإرباك حقيقة؛ لأن الترجمة الأدبية بحاجة إلى بعض الهوامش الزائدة والتدخلات من المترجم. إن ما يمتلكه من روح واسعة وقابلية رائعة للملاحظات جعل العمل أكثر سهولة ومتعة.

الترجمة بحاجة ماسة إلى قارئ خارجي؛ وهذا ما يلبيه الدكتور "جورج" تماماً، خصوصاً أنه لا يتوقف عند أي عمل قد تُرجم سابقاً، بل يبحث ويعالج المواضيع من منظوره الخاص؛ وهذا ما يجعل المهنية في العمل أكثر احترافية؛ فالوثوق في أي ترجمة سابقة هو فخ يمكن أن يجعل من الخطأ يتكرر. أرى أن حركة الترجمة تأخذ منحى جديداً أكثر نضجاً في المرحلة الحالية؛ وهذا نابع من الاهتمام الأكبر باللغات والتعمق بها، ولا بد أن أقول إن الدكتور "جورج" سيكون اسماً مميزاً في هذا المجال».

يذكر أن الدكتور "جورج وسوف" من مواليد قرية "السودا" في "طرطوس"، عام 1982.