أسئلة مختلفة راودتنا قبل زيارة الشاعر "محي الدين محمد" بتاريخ 15/6/2009 في "طرطوس"، ومع ذلك فبعض كلماته البسيطة حمّلتنا المزيد من التساؤلات، عندما تحدث عن المخيلة، الموهبة، الحرية والمجهول.

بداية الحديث فيها حنين إلى الماضي، فالسؤال كان عن بدايات الشاعر، وعنه أجاب: «عنت الشعر منذ المرحلة الثانوية وكنت أرى فيه منذ البداية حدوداً جغرافية ليست خاضعة للمقاييس، إنما هو فضاء مفتوح يلتقط الأجزاء الصغيرة ليخرجها بصورة ذات أبعاد رؤيوية جنّدت لأجلها البلاغة العربية بصورها المعروفة، وحتى الآن لم يتفق النقاد على إيجاد تعريف جامع مانع للشعر؛ لأن الشاعر الحقيقي عليه أن يكون أستاذاً في النثر حتى تأخذ القصيدة مداها كما يقول الشاعر "إليوت"، وثمة ثقافة عظيمة تولد قصيدة عظيمة برأي "أدونيس" وهذا صحيح».

يرفض جراح الإحسان ودلال الملوك، وعليه أن يموت واقفاً

أدبنا العربي المعاصر، تحدث عنه كشاعر وقبل ذلك كقارئ حين قال: «قرأت التراث العربي شعراً ونثراً وأعجبت بـ"طرفة بن العبد"، ذاك الفتى الصغير الذي عبر المجهول واكتشف قصيدة الحياة بالرغم من موته المبكر عبر خديعتين؛ السياسة والحسد، ومن ثم تابعت في قراءتي للحداثة وتعرفت على روادها وشد انتباهي كثيراً "أدونيس" و"محمود درويش" في القصيدة ذات البعد الكوني و"أمل دنقل" في الواقع اليومي المعاش باعتباره رافق الوجوه المنسية وعرف بها ودافع عنها، وأنا أتمثل الحكمة التي تقول "اقرأ مليون كلمة حتى تكتب كلمة".

في إحدى المناسبات الشعرية

وبدون ذلك لن يكون المثقف مثقفاً رؤيوياً ولا الشاعر بقادر على أن يكتشف المجهول إذا لم يسبر غور المؤلفات أياً كان نوعها، والمهم أن يعود بحصاد وافر ونعمة يحسد عليها».

أما التساؤل الأهم فهو حول جمهور الشعر ومقدار اهتمامه به اليوم، فكان رده: «لن أكون محرجاً إذا قلت أن قصيدة الأمس كانت تشكل مدخلاً إلى الكفاح عن الأوطان المحتلة وأن المنابر في الأمس كانت تسعد الشاعر وتقدم له الحرية ليقول أشياء كثيرة ثم تندفع إليه الجماهير لأنه يحرضها عبر الشعر وقائدها عبر الكلمة، وأتذكر بالمناسبة قولاً لأحد الشعراء بأن الشاعر يجب أن يكون له جماهيره ولو من "الجواميس"».

في منزله

وأضاف: «أترحم بالمناسبة على "أبي القاسم الشابي" لأنه كان يقيم الأمسية بثمانية من أصدقائه ومع ذلك كان للشعر يومها جماهيره، أما في هذه الأيام فقد خفت حدة الانتباه إلى الشعر وصارت الرواية العربية ضيفاً أقوى على الذهنية العربية، وكان لثورة المعلومات دورها أيضاً في الابتعاد عن الشعر، ومع ذلك سيظل الشعر إرثاً كونياً لا تقدر على محوه كل المجريات التي يتعرض لها، وإن اعتبر بعضهم أن الشعر أصبح دليلاً حيث كثرت الأسماء وقل الشعر، ومن أسف أقول إن هذه الواقعة نعاني منها في الإنتاجات التي نقرؤها وليست شعراً ولا نثراً».

"حرائق الجنون"؛ من عنوان مقالة إلى عنوان كتاب جمع العديد من مثيلاتها التي نشرت في صحف محلية وعربية، وعنه أوضح قائلاً: «كتاب "حرائق الجنون" هو مجموع المقالات التي نشرتها في الصحف السورية والعربية وكنت فيها قريباً من "الحطاب" و"النجار" و"الخباز" ومعلم المدرسة الذي زرته في البيت فوجدت مكان سكنه لا يتجاوز غرفة ونصف وهي مأجورة بنصف راتبه الشهري، وحين ذكر لي أن المحكمة أمرت بإخلائه من هذا البيت الصغير تأثرت كثيراً وكتبت مقالة "حرائق الجنون" وهي إحدى المقالات داخل الكتاب».

أحد دواوينه

صور ترسمها أبيات، لكن في الكفة الأخرى يرسمها النثر بشكل أفضل من الأبيات، وهو حل معادلة الشعر لدى كثير من الشعراء، كشاعرنا الذي قال: «عندما بدأت كتابة الشعر كانت قصائدي الأولى تنضح من التراث ولا سيما أن بحور الشعر التي درستها طويلاً قد تركت عندي انحناءً للتراث، لأن القصيدة التي لا يختم فطامها في الصحراء ليست قصيدة عربية، ونحن من حماة اللغة والمدافعين عنها، فوجدت أخيراً أن القافية على الرغم من رنيمها الجميل قد تقف حاجزاً دون الدهشة في عمارة القصيدة، وكذلك الرؤية البعيدة التي يكتشف فيها الشاعر آفاق عالمه ومحيطه متجاوزاً المحلية إلى الكونية».

وتابع: «من أجل ذلك كانت القصيدة التي أنشرها وأتعامل معها حالياً هي القصيدة الحرة والتي أرى فيها إنجازاً لغوياً تنتظم فيه الأصوات لإيقاعات المجاورة وتجانس المفردة والتكثيف والإيماء من بعيد، وتلك هي وظيفة الشعر، فإذا لم يقف الشاعر على أعتاب المجهول ويقدم لنا كشفاً رؤيوياً من خلال ثقافته والتي هي عنصر هام في القصيدة يكون شاعراً ناقص الأطراف».

مفردات الشعر؛ سؤال قد يطول شرحه، لكنه ضيفنا يكشف لنا عن أهميتها في تشكيل أحد أهم أركان القصيدة التي تقود بالنتيجة إلى تميز الشاعر فيقول: «المخيلة هي التي تصنع الشعر والشعر يجب أن يكون إنتاجاً للجميع وليس للشاعر وحده، وما يعتور الشاعر الحديث من غموض أحياناً سببه في رأيي ضعف ثقافة الشاعر، أما الغموض الشفاف الذي تحتاج إليه القصيدة فهو ركن من أركان حدودها البلاغية التي تكتشف بالأحاسيس ولا غنى للقصيدة الناضجة عنه.

من أجل هذا أختار المفردة التي أرى فيها حاجة ملحة للتعبير عما يحيط بي، ولا أرغب في استخدام مفردات مستهلكة أو كتبها غيري، أريد دائماً أن أكون بريئاً من أصابع الآخرين ولهذا أرى أن اللغة هي أساساً لغة الموهبة وليست لغة الوراثة والتي جاءت من معاجم الآخرين.

وأرى أن هذه المفردات التي أزعم أنني أكسر فيها جموح اللغة لتكون لغة في متناول المثقف والعادي هي المطلوبة في زمن شحت فيه القراءة وقل الإبداع وضاع المنصفون».

الحرية؛ بها تغنى العديد من الشعراء قديماً وحديثاً، وها هو يبدأ جوابه بها عند سؤاله عما يشغل باله كأديب وشاعر فيقول: «ما يشغل بالي هو أشياء كثيرة؛ أن تسود الحرية في كل مكان من هذا العالم المترامي وأن ينعم فقراء اليوم بالرفاهية، وأن تنتبه الأرض إلى سلامها الأخير ومصالحتها مع الحياة الهانئة المستقرة، وهذا لن يكون إلا بالعمل الدؤوب والمثابرة على مقاومة أعداء الحياة أينما كان موقعهم وحيثما حلوا ورحلوا، فلا معنى للحياة إذا لم يشعر أهلها بالطمأنينة ولا سيما أن العصر الذي نعيشه يمكن القول فيه بأنه عصر ينتج الأزمات نتيجة وجود قطبين انتصر فيهما الأقوى وأنتج لنا العولمة بكل ثقافاتها المتنوعة، ومن أسف أن نجد لهذه الثقافة التي جاءت بها العولمة أنصاراً كثيرين في الوطن العربي وغيره».

وأضاف: «مع ذلك فإن ثقافة العولمة حتى الدول الأوروبية رفضتها، وأقدم لك مثالاً أن "فرنسا" قد رفضت كل البضائع الأمريكية الاستهلاكية واستهلاك السوق الأمريكي حفاظاً على هويتها الثقافية.

وقد تقول لي يا صديقي ما دور الشعر في هذه القضية، فأذكرك بما قاله أحد رؤساء "فرنسا" السابقين (جيسكار ديستان) عندما سأل عن حجم التغييرات التي سيحدثها في وطنه، أجاب مختصراً: "وحدهم المثقفون يفعلون كل شيء"».

وبحسب تعبيره أيضاً فالشاعر الحقيقي: «يرفض جراح الإحسان ودلال الملوك، وعليه أن يموت واقفاً».

كتبه ودواوينه المقبلة قال عنها: «لدي ثلاثة مؤلفات قادمة منها مجموعتان شعريتان، الأولى تحمل عنوان "ذاكرة العوسج" والثانية تحمل اسم "سأومئ صامتاً"، والكتاب الثالث هو دراسة نقدية للشعر بعنوان "راهب من الجهات الدافئة" وهو دراسة في الدراسة الثقافية والدلالية في القصيدة الحديثة».

هذا بالنسبة للمؤلفات الجديدة، أما الكتب والدواوين المطبوعة للشاعر "محي الدين محمد" فهي: "امرأة من نسيان"، "قيامة الرؤيا"، "حرائق الجنون" (نصوص)، "كأس من النعاس"، "أدراج حافية"، "نشيد الزيت المر" والعديد من المقالات التي تنشر في الصحف المحلية والعربية.