يوصف بالهدوء، ولكن قلة يرون غير ذلك، وهو فعلاً غير ذلك. ففي جوفه جمرة دائمة الاتّقاد، تجعله قلقاً ومحتاراً بالمعنى الفلسفي/الوجودي. حييّ كثيراً، وعنيد وصلب كثيراً أيضاً، لعلها مفارقة، يستطيع اكتشاف حياءه حتى الأطفال..

وهذا الحياء كان يحرجه عندما يقلع في الحديث، خاصة إذا كان الحديث حوارياً، ولكن ما أن يبدأ حتى تنقلب حاله ليصبح شديد التماسك، ولو سألته في مرة قادمة عن تفصيلات أكثر لما تردد. هو الشاعر "سليمان الحكميَّة"، الحاصل على الجائزة العالمية في الشعر بملتقى الشعر في "رومانيا". موقع eHama التقى بالشاعر "الحكميَّة" بتاريخ 26/9/2008 وكان لنا معه الحوار التالي:

*حدّثنا عن نفسك؟

**ولدت في شهر تموز من عام /1948/م، في قرية "الحكمية" التابعة لمدينة "جبلة" حييت بمشيئة الله خلافاً لمنطق العلم، وبشفاعة الأولياء، واجتهاد الوالدة، وبالعناد (ربما يسمى ذلك إرادة الحياة)، كما ذكرت سابقاً لأحد الأصدقاء. كنت في أيامي الأولى أقرب إلى الميت مني إلى الحي، فحملتني والدتي (كما روت لي) وجدتي إلى ضريح أحد الأولياء (الشيخ مونِّس/ لعله مؤنس) طلباً للشفاعة، وكان ذلك سيراًعلى الأقدام لانعدام وسائط النقل في حينها، والمسافة بعيدة، بعض من صادفهم في الطريق استغرب محاولة والدتي البائسة، ونصحها بالعودة استعداداً لموتي المؤكد. لكنها أصرت على المتابعة، وفعلاً وصلت إلى ضريح الولي، وابتهلت إلى الله، وطلبت شفاعة الولي، وفي طريق العودة حصل الانفراج، وكان ذلك إيذان بالشفاء. وها أنا كما ترى لا زلت حياً، ولا يرزق.

الشاعر سليمان الحكميّة

تخرجت من جامعة "دمشق" - قسم الصحافة- في الدورة الاستثنائية شباط /1976/م. مارست أعمالاً كثيرة ذات طابع مهني ويدوي. حتى وقعت على وظيفة في شركة إنشائية عامة في بداية عام /1981/م، وباجتهادي ترقيت في العمل حتى معاون مدير عام الشركة، ثم مديرها العام تكليفاً، وقد أنهيت خدماتي لبلوغي السن القانوني معاون مدير عام، أما الآن فأنا أقيم في مدينة "حلب".

* منذ متى تكتب الشعر؟

** أول شعر قلته كنت في سن الثامنة أو التاسعة كان بيتاً من الشعر فيه تمجيد للعلم والمتعلم كان شعراً حِكَمياً كان فيه كسر بسيط في الوزن، كتبت في فتوتي الكثير تمكنت من الاحتفاظ بالقليل منه في هذا الدرج أو ذاك ثم هجرت الشعر مبكرا لتغير الاهتمام، وإن كنت بين فترة وأخرى أكتب بعض النصوص، ولو اطلعت على التواريخ المدونة في نهايات قصائد المجموعة لأدركت ذلك. انشغلت بالقراءات الفكرية فكونت خزينا ساعدني فيما بعد على كتابة شعر تأملي، فلسفي، وبدرجة ما صوفي.

في مرسم الفنان مصطفى نجيبة بحماه

*حصلت على الجائزة العالمية للشعر، أين جرت المسابقة، ومن شارك فيها، ومن كانت لجنة التحكيم وفي أي دولة جرت؟

** حصلت على الجائزة بنهاية فعاليات مهرجان الشعر العالمي في مدينة "كورتيا دي أرجيس"CURTEA DE ARGES)) الرومانية، الدورة الثانية عشرة، هو مهرجان تنظمه سنوياً ومنذ عام /1997/ م الأكاديمية العالمية "شرق-غرب" (INTERNATIONAL ACADEMY "ORIENT-OCCIDENT")الرومانية. وهي مؤسسة خاصة بادر إلى تأسيسها الكاتب والشاعر الروماني الكبير "دوميترو آين" ( M. ION ( DUMITRU (الرئيس)، والشاعرة الرومانية الكبيرة والمتميزة "كارولينا إليكا" CAROLINA ILICA) (المدير الفني). في هذه الدورة الثانية عشرة لهذا المهرجان المنعقدة في الفترة من 16- 22 تموز لهذا العام /2008/ م تحت شعار: 1001 قصيدة، شارك فيه حوالي 50 شاعراً من 25 بلداً، بينها كندا واليابان وبريطانيا وفرنسا وروسيا والسويد والنرويج، ومن أوروبا الشرقية وآسيا ..إلخ . وقد شارك من العرب الشاعر الكويتي الشاب المميز والمحرر في صحيفة القبس  "محمد النبهان"، ومن لبنان الشاعرة الشابة المثقفة والإعلامية "حنان عاد"، وهي صاحبة نص مستقل. وقد افتتح المهرجان بداية في مقر اتحاد الكتاب الروماني في العاصمة "بوخارست"، برعاية وحضور وزير المالية والاقتصاد "فاروجيان فوزغانيان" والشاعر ونائب رئيس اتحاد كتاب رومانيا، حيث ألقى كلمة نوّه فيها بدورالشعر في بناء الإنسان، وربط السياسي بالشعري حيث سأل نفسه في فترة وجوده بالجيش: "هل يمكن للقصيدة أن تقاتل أيضاً وتنقذ البشرية؟" وقد أشار إلى الشعر العربي، خاصة وأنه كان قادماً للتو من زيارة إلى "دمشق" في احتفاليتها كعاصمة للثقافة العربية، حيث كان العرب يقرؤون الشعر قبل الهجوم في الحرب. وقال: «ليت الناس يحاربون بالشعر فقط». ومن "بوخارست" حيث بدأت القراءات الشعرية للشعراء المشاركين، ثم الانتقال إلى مكان المهرجان "كورتيا دي آرجيس". حيث استمرت الإلقاءات الشعرية من خلال برامج يومية شملت الرحلات والزيارات لمواقع طبيعية بالغة الجمال ومواقع تاريخية وأثرية هامة، كالرحلة إلى بحيرة "فيدرارو" (vidraru) وحصن "دراكولا"، وأديرة قديمة وفيلات تاريخية..ألخ. في ختام فعاليات المهرجان رشحت للجائزة العالمية الكبيرة للشعر وقد رُشح معي لهذه الجائزة كل من الشاعر البلغاري "إيفان إيسينسكي" IVAN ESENSKI والشاعر السويدي "سفانتي سفانستروم" SVANTE SVAHNSTROM، وقد سبق أن حصل على هذه الجائزة من العرب الأستاذ "ناجي النعمان" الشاعر والكاتب والناشر المعروف صاحب جائزة نعمان للثقافة، واختتم توزيع الجوائز باختيار الشاعر الروماني الكبير "جورج فولتوريسكو"GEORGE VULTURESCU عضواً جديداً في إدارة المهرجان وهو علم مهم في الثقافة الرومانية.

في حي الطوافرة

*(عندما في الأعالي) لماذا اخترت هذا الاسم، الذي يشابه اسم أسطورة الخلق البابلية؟

**هو عنوان إحدى قصائد المجموعة، وهي قصيدة تحمل الهم العراقي، صيغت بأجواء ومناخات أسطورية، مع إيحاءات ورموز قرآنية وصوفية غير مباشرة. "عندما في الأعالي"، مطلع الملحمة البابلية الشهيرة والخالدة "إينوما إيليش" (وقد ترجم: حينما في الأعالي) المتضمنة قصة الخلق. وقد اخترت هذا العنوان للتأكيد على العمق التاريخي، بل الأزلي، الحضاري للعراق الحي. استحضرت الصراع الأزلي بين الآلهة، وهو صراع على النفوذ والهيمنة. ومن هذه المناخات الأثيرية، استوحيت مناخات الصراع على العراق بما هو صراع على النفوذ والهيمنة.

*كان السؤال الأساسيِ في "تيامات" في "إينوما إيليش" هو: (لماذا نبيد أبناءنا من أجل السلطة؟) فماذا كان سؤالك أنت؟

**السؤال الأساسي في قصيدة "عندما في الأعالي" هو: "مالبغداد ومالي"، في تأكيد على حجم المأساة التي نعجز عن التعبير عنها بغير الرمز والإيحاء، لأن المباشرة مهما بلغت من وضوح وصلابة، لن تستطيع إيصال الحالة المستحيلة التي وصل إليها العراق الحي. وقد اخترت عبارة: "عندما في الأعالي" عنواناً للمجموعة، بقصد إعادة طرح السؤال التفاؤلي: هل نستطيع إعادة الخلق (خلق العالم) كما نشتهي؟، على قواعد الخير والعدل والمحبة.. أنا متفائل.. من منطلق ديني متفائل.. ومن منطلق اجتماعي (أو قل حتى ماركسي) متفائل.. العالم سيُعاد خلقه..هذه قناعة مبنية على قواعد التنبؤ العلمي.. لن أسترسل حتى لا نذهب إلى السياسة المباشرة.

*هل اعتمدت التفعيلة في قصائدك، وكيف تخلق موسيقا الشعر إذاً؟

** عندما أكتب الشعر لا أختار شكله، الشعر هو الذي يختار، وغالباً فاتحة القصيدة التي تأتي عفواً لتحدد شكل القصيدة. أحياناً في القصيدة الواحدة تتداخل الأشكال الشعرية على غير قصد. أكتب كما تأتي الكتابة، القول الشعري هو الذي يحدد وعاءه الشكلي. قد تختلف موسيقا الشعر من التراتبية الزمنية لأوزان الشعر كما هو الحال في الموزون المقفى المنظوم على بحور الخليل، أو من خلال اعتماد نظام التفعيلة والتنويع عليها ضمن أوزان البحر الواحد أو أكثر من بحر. وقد تخلق الموسيقا الشعرية من خلال التناغم والانسجام (الهارموني) الذي تخلقه علاقات اللغة مع الصورة الشعرية والدلالات الرمزية للتعبير والذي يولد موسيقا داخلية للشعر تجعل فيه عذوبة وغنى تبعده عن الرتابة وملل التكرار. أرى أن الوزن ليس شرطاً ضرورياً للشعر، ليس من لوازم الشعر الثابتة بشهادة "أبي حيان التوحيدي"، وكذلك "الفارابي"، يعني أن للشعر مفهوم حي متحرك. وهنا المسألة أوسع من فكرة تطوير شكل القصيدة، إنها تذهب بنا إلى ما تحدث فيه المعاصرون، عن روح القصيدة، عن روح الشعر.

*ما هي مجموعاتك الشعرية التي تحضر لها؟

** لدي مجموعة معدة للطبع، وهي قصيدة طويلة نسبياً (ملحمة) بعنوان: "من يمت يرني"، موضوعها المأساة العراقية. وقد كتبتها بطريقة أزعم أنها مختلفة في الشكل والمضمون، وأشتغل على نصوص آمل أن أتمكن من جمعها في كتاب خلال زمن ليس ببعيد.

*هل تعتقد أنك وفقت في خلق الصورة في قصيدتك، أم كنت من أصحاب مدرسة اللغة ؟

**لا أعرف ماذا تعني "بمدرسة اللغة"، ولكني مهتم بالمتانة اللغوية لأن اللغة هي الوعاء الحامل للصورة وللفكرة التي يجب أن لا تفر (تضيع) من خلال فواصل وتقطعات هذه اللغة، فالتماسك ضروري في الوعاء لحفظ المستوعب (المحمول)، أردت فعلاً اجتراح لغة أزعم أنها جديدة. انشغلت كثيراً بصناعة الصورة لأن حجم التأمل والجرعات الفكرية المكثفة التي في شعري تحتاج أيضاً إلى تكثيف موحٍ للصور، حتى لا يصبح الشعر قاحلاً وجافاً، وحتى لا يتحول إلى خطاب فكري بارد. لذلك الصورة الشعرية عندي قضية بذاتها، وستلاحظ ذلك خاصة استحداث الصورة المتكررة وجدتها وتوافقها مع الفكرة المنظومة والمفردة الموحية، وتوظيفها توظيفاً مدروساً لتأتي منسجمة مع سياق النص، مقربة معانيه.

لن تجد عندي صورة مطروقة سابقاً، وإن وجدت، فهي معالجة بطريقة جديدة ومحملة بإيحاءات ودلالات جديدة. وربما كانت هذه الجدة في الصورة واحدة من العوامل التي تجعل شعري مختلفاً لا يشبه غيره، ليس فيه تقليد لأحد وربما سيصعب على أحد تقليده.

  • أنت تكتب القصيدة الصوفية، لماذا؟
  • **الشاعر يكتب من خلال ثقافته وتكوينه الجمالي، ويوقد روحه بلغة الرمز. التصوف بالنسبة لي بيئة وثقافة، وتجربة، أو قل، مغامرة روحية وعقلية، تتيح لي آفاقاً وفضاءات واسعة، للخوض فيما أعتبره جديداً على الذائقة الشعرية العربية، لمزاوجة لغة التصوف مع لغة حداثية، وفي هذا طرافة تميز تجربتي. لاحظ أن الغرب في موجة "ما بعد الحداثة" لجأ إلى التصوف، لما يقدمه من فضاءات قادرة على مد الفكر والمخيلة بطاقات إبداعية وأخلاقية معاً، ويعمق بالتالي الحالة الإنسانية في الذات القلقة، بعد قرون من المبالغة في العقلانية الجافة، التي قادت الغرب إلى العُته الاجتماعي، بل إلى البهيمية في بعض النواحي.. ربما كان في التصوف خلاص البشر.

    *كيف يمكن للشعر أن يخدم المجتمع؟

    ** هذا سؤال عن جدوى الشعر.. لا يزال للشعر جدوى طالما هو يتحرك ضمن إطار من البشر (مجتمع)، في هذا الإطار هواؤه الذي يتنفس، فلو خرج الشعر، وهو لن يستطيع، من هذا الإطار، صار مغترباً معزولاً، وربما تحول إلى هلوسات وهذيانات لا معنى لها. الشعر عندما يدخل في نسيج الوجدان العام يصبح كالوخز اللطيف؛ يوقظ الوعي ويصقل الروح. وهو بهذا المعنى يثوّرنا ويدفعنا إلى الموقف الجمعي الذي هو، بالمحصلة، اجتماع مواقف الأفراد. الشعر هو اتحاد الذات "الأنا" الخاصة، "الأنا " الجمعية. الشعر يعرفنا كينونتنا الإنسانية، يحدد موقفنا من القيم، من الحب والكراهية، من العدل والظلم، ومن الحق والباطل... يدفعنا لطرح الأسئلة الوجودية وربما الإجابة عليها. وبما هو (الشعر) نتاج ذوات بشرية، فهو نتاج اجتماعي، وعليه فإن تأثيره اجتماعي... إنه يجمّلنا ويجمّل حياتنا، ويجمّل أرواحنا.. يجعلنا أكثر ثقة بالنفس، وأكثر ثقة بالمستقبل. غير أن "عضوية" الشعر هذه، لا تبرر بعده عن ذات الشاعر، فالفنية في الشعر هي شرط لازم لكي يبقى الشعر شعراً. إن التضحية بفنية الشعر تنقله إلى خانة إبداعية (أو غير إبداعية) أخرى.. أيِّ شيء غير الشعر.

    *هناك بعض الشعراء الذين ما زالوا يفصلون بين القصيدة والنثر ويعتبرون أنه لا يجوز تسمية قصيدة النثر بالشعر فما هي وجهة نظرك؟

    **شخصياً لا أتعصب إلى نمط أو شكل، ولا أستهجن نمطاً أو شكلاً، أنحاز للشعر.. للشاعرية.. للقول الشعري .. أتحيز للتخيل الذي يُكسب القول صفة الشعر، التخييل الذي يخلق التأثير والفاعلية في المتلقي. أرى أنه من غير المجدي إعادة الجدل حول قصيدة النثر، بعد كل ما أسيل حولها من حبر وبعد هذا الزمن الذي كرّس حضورها عالمياً وعربياً. إن أهم إنجازات الشعر منذ ما يزيد على نصف قرن، قامت به قصيدة النثر، شعراء قصيدة النثر، الذين راكموا منجزاً لا يمكن شطبه أو تجاهله. لقد أصبحت قصيدة النثر أفقاً حقيقياً للشعر المابعد حداثي. شخصياً أرى نفسي مع القائلين بأن الشكل ليس وحده سمة الحداثة، فالكثير من القصائد الحديثة، لم تخرج من ثوب القديم، في الفكر والموضوع والصورة. الحداثة أن نكون على مستوى العصر، ونكتب نصاً (قصيدة) مفتوحاً على المستقبل. إن القصيدة الموزونة قد لا تكون فقدت كل إمكاناتها، وإن كنا لا نرى جديداً فيما يكتبه أصحابها بعد آخر كتابها الكبار (سعيد عقل، نديم محمد، الجواهري، البردوني.. إلخ). وبكل الأحوال للشاعر أن يختار شكله، فقط عليه ألا يكرر الآخرين أو يكرر نفسه. فقط عليه أن يقدم الجديد الشعري فعلاً.