لم تمنع الجراح البليغة التي غيرت ملامح وجه وجسد "أحمد غانم" الناجي من "حرب تشرين" عام 1973 من بناء أسرة ومتابعة حياته بشغف، فأسس مكتبته الخاصة، ونذر هامش الربح البسيط لها، وابتاع الجرائد لها، وأسس لحركة ثقافية جيدة في مدينة "بانياس".

مدوّنةُ وطن "eSyria" التقت بتاريخ 25 كانون الثاني 2020 النقيب "أحمد علي غانم" الذي صنف بطل الفرقة الثالثة دبابات، في منزله بمدينة "بانياس"، فتحدث في البداية عن إصابته قائلاً: «بعد حشد القوات السورية وتهيئتها لخوض المعركة في الخامس من شهر تشرين الأول عام 1973 تلقينا الأوامر بالتحرك إلى جبهة القتال والتمركز بالقرب من مدينة "قطنا"، ومن ثم تلقينا أوامر أخرى بالتحرك إلى منطقة "تل شحم" والتمركز فيها، لتنطلق منها المعركة والتحرك باتجاه "القنيطرة"، حيث تعرضنا لنيران معادية كثيفة من قبل طيران العدو الذي كان يغطي السماء كالذباب، وكانت دفاعاتنا تتصدى لها بكل قوة وبسالة وبمعنويات عالية جداً.

لم أتلقَ أي مساعدة من أحد بعد تسريحي، فقررت افتتاح مكتبة في مدينة "بانياس"، وكانت أولى المكتبات بالمدينة، وتمكنت أيضاً من الحصول على رخصة بيع الجرائد والمجلات، وكانت الرخصة شبه الوحيدة حينها في المدينة، وحاولت من خلالها ردّ الدين للمجتمع الذي أبدى تعاطفه الكبير معي، فبدأت أبيع القرطاسية بهامش ربح بسيط وما زلت مستمراً، وهذا بهدف الاستمرار في الحياة التي تطورت بسرعة كبيرة، ولتحريض الحياة الثقافية المجتمعية الخارجة من ويلات الحرب بانتصار كبير

وأذكر حينها كدليل على المعنويات العالية والمواقف المحفورة في ذهني ولن أنساها ما حييت، أن أحد العناصر لدغه عقرب سام، فوجهته بالذهاب إلى المستشفى الميداني القريب منا حينها، للعلاج والاستشفاء، ولكنه رفض الابتعاد عن ساحة المعركة من أجل تلقي العلاج، وضمد جراحه ميدانياً وتابع معنا القتال بكل بسالة ما منح بقية العناصر جرعة معنويات إضافية.

الجريح أحمد أمام مكتبته

وعلى طريق "بانياس- القنيطرة" تمّ الاشتباك مع قوات العدو بشكل مباشر، وكنا لهم ساحقين بتدمير دبابتين متتاليتين بحنكة وذكاء مني كقائد فصيلة الدبابات حينها، ما أثار جنون العدو ودفعه لتوجيه ضربات صاروخية متتالية من الجهة الخلفية لنا، أي من جهة "تل شحم" التي اعتبرناها جهة نظيفة وخالية من العدو وفق تعليمات مركزية، لكنها لم تكن نظيفة تماماً كما أوضح الهجوم المعاكس، وكان ذلك من خلال بعض الدشم والكمائن، ما أدى إلى تلقينا ضربة قوية جداً منها لم تكن بالحسبان وأدى إلى إصابة دبابتي بشكل مباشر واحتراقها بشكل كامل، وحينها شعرت بجسدي يطير في الجو قبل أن أسقط على الأرض بقوة، حيث أدت الضربة إلى احتراق جسدي بشكل شبه كامل».

يتابع: «بعدها لم أيأس من الحياة بل تشبثت بها بقوة، وتحركت زحفاً نحو الخلف وصولاً إلى أحد الخنادق لأرتاح قليلاً، حيث أصابتني خلال عملية الزحف رصاصة بندقية بقدمي قبل النزول في الخندق للاحتماء من النيران المعادية، وبعد الراحة لبضع دقائق تابعت الزحف نحو قواتنا المتمركزة، ليتم إسعافي إلى المستشفى الميداني، وهذا في اليوم التاسع من شهر تشرين الأول عام 1973.

خلال ممارسته أعماله المكتبية

ونتيجة لذلك وبعد مجموعة عمليات جراحية استشفائية وعلاجية قاربت السبعين عملية، منها في "سورية" ومنها في "فرنسا"، سرحت من الجيش بنسبة عجز 90%، وبراتب تقاعدي لا يتجاوز 500 ليرة، وكانت الظروف والحياة المادية صعبة نوعاً ما، وبدأت أعمل على سيارة صغيرة من الريف إلى مدينة "بانياس"، بهدف متابعة الحياة ومحاولة إثبات وجودي فيها، متكابراً على الجراح والعلاج المتواصل، لتحقيق ذاتي التي لم تتخلَ عني، وتأكيداً على ذلك تابعت حياتي الأسرية والاجتماعية بشكل معتاد، فرزقت بأربعة ذكور وبنتين حرصت على متابعتهم لتحصيلهم العلمي الأكاديمي».

ويتابع: «لم أتلقَ أي مساعدة من أحد بعد تسريحي، فقررت افتتاح مكتبة في مدينة "بانياس"، وكانت أولى المكتبات بالمدينة، وتمكنت أيضاً من الحصول على رخصة بيع الجرائد والمجلات، وكانت الرخصة شبه الوحيدة حينها في المدينة، وحاولت من خلالها ردّ الدين للمجتمع الذي أبدى تعاطفه الكبير معي، فبدأت أبيع القرطاسية بهامش ربح بسيط وما زلت مستمراً، وهذا بهدف الاستمرار في الحياة التي تطورت بسرعة كبيرة، ولتحريض الحياة الثقافية المجتمعية الخارجة من ويلات الحرب بانتصار كبير».

الموظف المتقاعد "محمد علي" أحد المستفيدين من الخدمات المكتبية التي قدمها الجريح "أحمد غانم"، قال: «بعد تقاعدي تفرغت للمطالعة وبحثت كثيراً عن كتاب خاص بالتربية الدينية، وبعد عناء تعرفت على مكتبة الجريح "أحمد" والخدمات المكتبية التي يقدمها فيها، فطلبت منه الكتاب وطباعة نسختين منه، وما فاجأني حينها الأجور الرمزية التي يتلقاها، وحين سألته أجاب بأنه يهدف إلى نشر الثقافة والمعرفة وليس الربح، ومن حينها بدأت أتعامل معه بشكل مستمر عند حاجتي لأي كتاب مفقود، والأكثر أهمية من هذا شغفه للحياة وتحديه للآلام التي فاقت الوصف، وهذا كان حالة مميزة على مستوى المدينة.

وكذلك عرف النقيب "أحمد" ببسالته في الحرب والبطولة التي قدمها لحماية رفاقه خلال المعركة، وأذكر أنه لقب ببطل الدبابات حينها، حيث تمكن من ضرب دبابتين معاديتين كانتا من أوائل الإصابات المباشرة التي أثارت جنون العدو».

يشار إلى أنّ البطل "أحمد غانم" من مواليد قرية "الشيباني" التابعة لمدينة "بانياس" عام 1950.