طبيعة البيئة البحرية والاجتماعية قولبت كيان القبطان "علي" منذ الصغر، وكوّنت لديه حب التفوق في العمل، فكان من أوائل القباطنة العاملين بـ"الماستر" على السفن الأجنبية، وكذلك مدخلي التقانات الحديثة إلى الأعمال البحرية وبرمجتها.

مدونة وطن "eSyria" التقت القبطان البحري "علي محمد أبو عمر" بتاريخ 3 آب 2017، ليبحر بنا في تاريخ بحري سوري حافل بالعطاء، انطلاقاً من البيئة الاجتماعية التي عاش فيها وأثرت في تكوين شخصيته، حيث قال: «طبيعة البيئة البحرية الأروادية التي أنتمي إليها، وتنقل والدي في أعمال تأسيس مرفأي "اللاذقية" و"طرطوس" أثرت فيّ كثيراً، وكوّن علاقة وثيقة لي مع البحر، فما كان مني إلا أن أكون جزءاً منه، أعمل في صيفه وعلى متن مراكبه لأجمع ثمن مستلزمات التحصيل العلمي، ومع هذا عشت حياتي الطبيعية بشغفها، وارتدت المقاهي الشعبية، ومنها مقهى "درويش" لمتابعة لاعبي "الضاما" والتعلم منهم، فطورت نفسي بها وابتدعت حركات لا تقهر، لكن هذا الشغف توقف بسبب السفر إلى "اليونان" للدراسة في الأكاديمية البحرية اليونانية عام 1974، حيث كان همّي التفوق.

حصلت على شهادة ضابط أول، وبعدها شهادة الماستر "ضابط أعالي البحار" بتفوق بفضل المدرسين المختصين الذين منحوني كما بقية زملائي المعرفة الأكاديمية بكل براعة ومحبة

تمكنت من اللغة الأجنبية المحلية هناك، وتفوقت في الدراسة، ولم يغب عني مساعدة أبناء بلدي ممن يريدون متابعة تحصيلهم العلمي البحري وتعلم اللغة، وكان منزلي مضافة لهم في كل الأوقات.

القبطان علي أبو عمر في أحد الموانئ الأجنبية

بعد الانتهاء من الدراسة سافرت فوراً على متن البواخر كضابط بحري، علماً أنه كان عليّ خوض فترة تجريبية مدتها ثلاث سنوات، ثم التقدم لشهادة (ضابط ثاني)، لكن الثقة بالنفس ومحبة العمل البحري والقدرة التي امتلكتها مكنتني من تخطي مراحل الاختبار بجدارة».

ويتابع: «حصلت على شهادة ضابط أول، وبعدها شهادة الماستر "ضابط أعالي البحار" بتفوق بفضل المدرسين المختصين الذين منحوني كما بقية زملائي المعرفة الأكاديمية بكل براعة ومحبة».

خلال قيادة الباخرة

قصة غرق لا بد منها تجاوزها بحنكة، حيث قال عنها: «في كل رحلة بحرية قصة طريفة ومواقف صعبة، ومنها خلال إحدى الرحلات كنت برتبة ضابط أول تسلّمت الباخرة لسمعتي البحرية التي يشيد بها الجميع، وهنا شحنا بضائع من "ليبيا"، واتجهنا إلى "الصين" للتفريغ، وهناك كان علينا شحن القمح مرة ثانية من "كندا" وتفريغها في "الهند"، وخلال عبور "المحيط الهادي" صادفنا نوة بحرية قوية جداً لم نحسب حسابها لضعف التقانات البحرية الحديثة في تلك المرحلة، وكان خيارنا الوحيد الغرق فقط، فتناقشت مع القبطان عن إمكانية الهروب من العاصفة، واقترحت حينئذٍ التوجه نحو جزء "الألوتين" في الجهة الشمالية، وكان من الصعب عملية استدارة الباخرة ضمن الأمواج العالية، لكننا تمكّنا من تطبيق الاقتراح بنجاح ومن دون أي خسائر، وهذه الحادثة لا أنساها ما حييت».

ويتابع: «عملت في أصعب الظروف البحرية وأضعف الوسائل التقنية الحديثة المسؤولة عن الحماية والسلامة الآنية والاستباقية، فأغلب المتوفر ضمن السفينة جهاز "السكستين" الذي يعتمد رصد النجوم والكواكب لتحديد موقع الباخرة وسط المحيط، ومع هذا كان العمل ممتعاً في تلك الأيام، لأنه وبعد ترصيف الباخرة يمكن القيام بجولات سياحية للتعرف إلى معالم وجمال كل بلد وثقافته؛ وهو ما يعني غنى من الناحية الاجتماعية والفكرية».

القبطان خالد أسطه

وكذلك كانت الحالة الإنسانية سيدة المواقف العملية في حياة القبطان "علي"؛ وهو ما جذب البحارة للبحث عن فرص العمل معه، وهنا قال القبطان "علي": «انطلقنا من بيئة فقيرة وآباء وأجداد بحارة زين الشقاء حياتهم، وهذا انعكس على طبيعة علاقاتي مع طاقمي البحري، فسعى من عرفني وعملي معي إلى المزيد من رحلات العمل، خاصة أنه لم يسجل في تاريخي البحري أي حالة تظلم، بل على العكس من يحدث معه أي موقف يلجأ إليّ للإنصاف، ومنهم حرفي اللحام "أحمد" الذي تعرض لحادث خلال العمل ولم يحصل على حقه بعد انتهاء الرحلة، وفي رحلة عمل جديدة أدركت القصة كاملة، وطلبت من مالك السفينة التعويض له، وعلى الفور تم التعويض، وكذلك بحار آخر برتبة (ضابط ثاني) كان بحاحة إلى مبلغ مالي استباقي لزوم عمل جراحي لوالده، فتناقشت مع مالك السفينة، وحصل عليه».

في عام 2002، ترك العمل البحري وهو في ذروة نشاطه وقدرته العملية ومرحلة الاستفادة من الخبرة البحرية، وهنا كان القرار اجتماعياً أسرياً: «بعد إحدى الرحلات عدت إلى المنزل، ولم يقترب مني ولدي الصغير، بل خاف مني، وهذا أثر فيّ كثيراً وقررت البقاء بجانب أسرتي لرعايتها والاهتمام بها أكثر، فابني الآن يدرس في الأكاديمية البحرية مع أنه كان يحق له دراسة الطب، والبقية بين المدرسة والجامعة».

بعد انتهاء العمل البحري كان لا بد من العودة إلى شغف الطفولة ولعبة "الضاما"، حيث أضاف: «هي لعبة شيقة، وتحتاج إلى ذكاء كبير، وقد مارستها في مختلف المناطق المعروفة بلعبها، وشاركت وتحديت أمهر لاعبيها، ومارستها عبر الإنترنت بأصعب مراحلها؛ وهذا كوّن شغفاً تجاهها دفعني إلى المشاركة في مختلف البطولات الدولية، ومنها المشاركة ببطولة العالم بداية عام 2017 في مدينة "طرابلس" بمشاركة ستين لاعباً من عشرين دولة، حصلت فيها على درع مشاركة».

ويتابع: «بوجه عام، لا ألعب وفي ذهني خطة معينة، بل أعتمد مقدرتي في كشف لعبة الخصم وابتكار خطة فورية مضادة، وكذلك ألعب بسرعة محسوبة لكسر الوقت؛ أغلب الأحيان عشر دقائق؛ بخلاف أغلب زملائي اللاعبين».

بتاريخ بحري نظيف من ناحية السلامة البشرية والميكانيكية، لذلك سمي "تربل شوتر"؛ أي طارد المشكلات، وعنه قال القبطان "خالد أسطه": «خلال سنوات عمله بمختلف المراتب الوظيفية لم يسجل في ذاتيته أي حادث يتعلق بالسلامة على صعيد الطاقم البحري العامل أو السفينة كوسيلة نقل، وهذا انعكس إيجابياً على عقود عمله المتتالية مع أكبر الشركات البحرية، وكان عامل جذب للبحث عن خبرته لقيادة البواخر التجارية، وخاصة منها الضخمة التي تزن 250 ألف طن».

القبطان البحري "يوسف الجندي" التقى القبطان "علي" في كثير من الموانئ البحرية العالمية، قال: «تمتع بخبرة بحرية عالية وتفوق علمي كبير، وله اسمه البحري المميز بين مجتمع القباطنة، وهذه سمة ليس بالأمر السهل الحصول عليها لولا ما يملكه من معرفة وأداء عالٍ، إضافة إلى أنه وقبل الإبحار كان يتفقد السفينة ككتلة ميكانيكية ومعدنية، والمستودعات وجهوزيتها، ولا يسمح بالانطلاق إلا في تمام الجهوزية، وهذا كان يلقى اهتمام مالك السفينة وصاحب البضائع المحملة والطاقم البحري العامل، وأثر إيجاباً في عقود العمل».

يشار إلى أن القبطان "علي أبو عمر" من مواليد "اللاذقية" عام 1955، متزوج ولديه أربعة أبناء، ومقيم في "طرطوس".