لم يكن "محمد جري" طبيباً تحكمه التعاملات الإنسانية مع مرضاه وحسب، بل كان بوصلة يتوجه بها أغلب العاملين بالجانب الإغاثي والتنموي، لتبسيط إجراءاتهم واختصار الوقت، والانطلاق نحو العمل المجتمعي.

بعضهم وصفوه بالإنساني، وبعضهم الآخر برجل الإغاثة؛ أي الخدمات المجتمعة، وهذا ليس كلاماً في فراغ، إنما تجربة واقعية اختصرت الحقوقية "نغم سليمان" رئيسة شؤون الطلاب في "جامعة طرطوس" وناشطة في المجال التطوعي المجتمعي، بعض تفاصيلها بقولها: «سمعت الكثير عن أسلوب تعامل الدكتور "محمد" مع مراجعيه من مختلف أبناء المجتمع، وهذا شجعني على التعامل معه مباشرة في المجال المجتمعي الإنساني الذي أنشط فيه، وسؤاله عن تفاصيل مشروع نرغب القيام به في محافظة "طرطوس"، وهنا برزت لي قيمته الإدارية في أسلوب التعاطي مع الفكرة وبأسلوب منهجي، وكذلك في توصيف العمل وإعطائه حقه من جهة خط سير الموافقات المطلوبة التي يمكن أن تأخذ الكثير من الوقت فيما لو لم يقدّم مشورته لي لتبسيط الإجراءات، كما أن بصمته الإنسانية برزت من خلال طرحه لأفكار تنموية تخدم الفكرة العامة التي تم طرحها، ومجمل هذا يدفعني للرجوع إليه في كل عقبة تعترضني للبحث في حلولها؛ لأنه اختصر لي الكثير من الوقت والعقبات».

ما يملكه من معلومات إدارية كانت بالنسبة لنا كنزاً اعتمدنا عليه في تسريع سير معاملاتنا وفق المكاتب والدوائر المعنية؛ وهذا حفّزنا إلى مزيد من المشاريع الإنتاجية والأنشطة المجتمعية الهادفة

كذلك "دريد درويش" مدير مكتب "الجمعية السورية للتنمية الاجتماعية" في "طرطوس"، الذي احتكّ مع الدكتور "محمد" وساعده -بحسب حديثه- على مواصلة العمل المجتمعي بكل قوة، وعزّز ثقته في العمل الإداري الإغاثي، وهنا قال لمدونة وطن "eSyria" بتاريخ 12 كانون الثاني 2017: «هو رجل مجتمعي إنساني بتعاملاته؛ أي إنه تبنّى العمل المجتمعي والنهوض به انطلاقاً من تعاملاته الإنسانية وحنكته الإدارية في العمل، فلنا معه تجربة طويلة وجديرة بالتوضيح، حيث بدأت من اللقاء الأول الذي خالف جميع التوقعات التي كنت قد تخيلتها له، انطلاقاً من انفتاحه في التعامل، الذي تجلّى في طريقة الترحيب والاستقبال والاستماع والتركيز على كل كلمة ننطقها؛ وهذا أدّى إلى أريحية بالتعامل من طرفنا أثرت إيجاباً في مجريات العمل التنموي الذي ننشده من خلال جمعيتنا.

الأستاذ "دريد درويش"

وعلى الصعيد الإداري والتوجيهي للعمل القيّم الهادف، كان يطرح علينا الحلول لمختلف المشكلات التي تعترضنا في بداية عملنا في "طرطوس"؛ وهذا مستمر حتى الآن، وهنا أظنّ أنه ينطلق في تفكيره هذا من الناحية الإنسانية التي يمكن أن تكون رديفة للمجتمع؛ هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى هو يرى بحسب معلوماتي أن كل ما يقدم خدمة للمجتمع يجب أن يمر من دون عراقيل، بل يجب أن يسند من مختلف الجهات الوصائية والرقابية مع تبسيط الإجراءات، لكن هذا لا يعني تقديمه أي مصلحة على مصلحة المجتمع، وللتأكيد على هذه الفكرة يمكن القول إن الحالات الإنسانية التي شاهدتها تراجعه في مكتبه كثيرة، ولا أذكر أنّ أحدهم عاد غير مبتسم نتيجة تسيير أموره وتبسيط إجراءاته».

ويتابع: «ما يملكه من معلومات إدارية كانت بالنسبة لنا كنزاً اعتمدنا عليه في تسريع سير معاملاتنا وفق المكاتب والدوائر المعنية؛ وهذا حفّزنا إلى مزيد من المشاريع الإنتاجية والأنشطة المجتمعية الهادفة».

الدكتور "محمد جري"

وفي لقاء مع الدكتور "محمد عبد الحليم جري"، قال: «بحكم عملي كطبيب أتعامل مع مختلف شرائح المجتمع؛ وهذا أكسبني خبرة في التعامل معها بما يتوافق وحاجياتها، خاصة أن السمة العامة لهذه المهنة هي الإنسانية، والشكر على الشفاء هو بالنسبة لي فرحة لا توصف، فأنا ابن بيئة وأسرة مكتفية مادياً وتعمل بالزراعة، على الرغم من أنّ عدد أفرادها كبير، وعندما تخرّجت في جامعة "تشرين"، كلية الطب عام 1990، بدأت العمل ضمن عيادتي في قرية "الحسنة" التابعة لبلدة "كرتو" جنوبي "طرطوس"، وكان يوماً حافلاً بالعمل، لن أنساه ما حييت؛ لأنه انطلاقة موفقة ومثمرة».

ويتابع: «توفي والدي تاركاً خلفه فتية يحتاجون إلى الرعاية ومتابعة التحصيل العلمي، وحملت هذا على كاهلي بكل محبة حتى تمكّنت منه، فجميع إخوتي أنهوا دراستهم الأكاديمية، ومن ذاك الوقت وأنا أتكفّل بتعليم فرد ما على نفقتي؛ لأنّ هذا بركة لي».

الدكتور "محمد" مع محافظ طرطوس

بدأت إدارته المميزة للعمل من عيادته، وهنا قال الدكتور "جري": «أدرك أوضاع جميع مرضاي، لأنهم ضمن قطاع بلدتي، والكثيرون منهم أوضاعهم لا تسمح لي بتقاضي أجور المعانية مهما كانت بسيطة أساساً، وحتى فيما لو توفر لدي أدوية أعطيهم منها من دون أي مقابل، وعليه عيادتي تكتظ بالمراجعين يومياً وحتى ساعات متأخرة من الليل؛ وهذا يجبرني على تناول وجبة غدائي "سندويشة" خلال العمل في أغلب الأوقات؛ وهو أمر يشعرني بالسعادة؛ خاصة عندما يكون المراجعون من جرحى الجيش السوري أو الرديفين له؛ لأنّ لهم أوضاعهم الخاصة بالنسبة لي في التعامل المجاني مهما كانت التكاليف والمهام الطبية والمتابعة المطلوبة مني».

أما فيما يخص العمل الإداري الرسمي والإغاثي، فيقول: «عام 2011 رشحت لمجلس المحافظة، وكنت عضو مؤتمر في "نقابة أطباء سورية" كممثل لمحافظة "طرطوس"، وهنا يجب التنبيه إلى أنني لم ألجأ إلى الدعاية الإعلانية خلال الترشح، وكانت دعايتي عملي المهني وسمعتي بين الناس.

وفي عام 2013 رشحت لعضوية المكتب التنفيذي لقطاع الشؤون الاجتماعية والصحة والبيئة والنفايات والإغاثة بما تضمنه من أعمال، وهذا قطاع عمل كبير يحتاج إلى وقت ومحبة للعمل، وخاصة الإغاثة المتعلق بصورة مباشرة مع الناس من وافدين ومجتمع محلي، لكن النتائج الإنسانية المحصودة منه تنسينا التعب؛ فالعمل الإنساني برأيي يحتاج إلى سمتين مهمتين بالشخص، أولها أن يكون شخصاً كريماً قادراً على العطاء، وشفافاً بالتعامل، وتبلور هذا بالنسبة لي من خلال عدم تجاوز صلاحياتي العملية وإبلاغ السيد المحافظ المسؤول الأعلى مني بجمع التفاصيل والطلبات الإغاثية المقدمة من المواطنين، بعد وضع مقترحات بكل شفافية ومسؤولية، ولثقته بإدارتي وعملي يعطيني الموافقة، وهذه إدارة عملية للصفة الإنسانية المجتمعية».

وعن بعض القصص الإنسانية، قال: «في أحد الأيام أجرى لي صديقي الطبيب عملاً جراحياً بسيطاً، وكان عليّ الراحة، وطبقت هذا، لكن نتيجة اعتياد المرضى دوامي اليومي في العيادة، حضروا كالعادة على الرغم إغلاقها، وعندما رأيتهم من نافذة المنزل وأحوالهم صعبة، كابرت على نفسي وذهبت إلى العيادة وعملت إلى ما بعد منتصف الليل على الرغم من الإرهاق».

يشار إلى أن الدكتور "محمد جري" من مواليد بلدة "الكريمة" "كرتو" سابقاً عام 1964، وهو متزوج ولديه خمسة أبناء.