تتمتع "ديبة النسيم" بسواعد قوية ومخيلة جيدة، وقامت بتوظيف هذه القوة بمهارة لجذب المحيطين بها، للتعامل معها والاعتماد عليها في أعمال متعددة، فحققت دخلاً مادياً أدارته بطريقة مكنتها من منح أبنائها حياة لائقة اجتماعياً وعلمياً.

ارتبطت "ديبة النسيم" بطقوس وعادات بلدتها "مشتى الحلو"، وواظبت على ممارستها حتى وهي الآن في عقدها التاسع؛ وفق ما أكدته لنا ربة المنزل "إلهام فضة" ابنة "المشتى"، وتابعت: «العمة "ديبة" كما اعتدنا تسميتها ما زالت محافظة على عاداتها التراثية القديمة، ومنها أنها في كل يوم سبت تستحم وتتجهز وتنتظر نهار يوم الأحد بفارغ الصبر للذهاب إلى الكنيسة وتأدية الصلاة والتراتيل والتقديسات، وتمسكها بالتراث لهو دلالة على قمة ارتباطها بماضيها وفخرها به، ليكون مصدراً ننهل منه نحن الجيل اللاحق بجيلهم، كما أنه ارتباط روحي منها بإيمان وبروحية تلك المرحلة الزمنية على الرغم من قساوتها معيشياً واقتصادياً عليها، فهي ترى بنكرانها للذات التي جعلتها صامدة وقوية تتحمل كل الصعوبات، حتى إنها علمتنا أن نظافة هذا اليوم يجب أن تشمل كل أرجاء المنزل وأدواته تحضيراً ليوم الأحد».

كنت أصغر فتاة تمارس عمل الحصاد، وكنت أنافس الحاصدين المخضرمين فيشيدون بي

المحامي "وائل صباغ" القائم بأعمال "الملتقى الثقافي العائلي في مشتى الحلو"، أكد أن الملتقى كرمها كسيدة مشتاوية منتجة يفخر أبناء "المشتى" بها لذلك ينادونها العمة "ديبة"، مضيفاً: «ما أدركناه عن العمة "ديبة" أنها كانت كالرجال في قوتها وهمتها على العمل منذ صغر سنها وبعد الوفاة المبكرة لزوجها، فحرثت الحقول وبذرت القمح والشعير بكميات كبيرة وتعاملت معها على البيدر كما الرجال، وأيضاً امتهنت الخياطة وصب "الكنافة"، وذاع صيتها في هذه الأعمال حتى وصل إلى محافظة "حمص"، ومن خلال المردود المادي الذي جنته من هذه الأعمال تابع أبناؤها تحصيلهم الأكاديمي».

العمة ديبة خلال العمل وهي في عقدها التاسع

ويضيف: «كما تورد الأحاديث من المعمرين في البلدة ومنها هي بالذات، قيل إنه قبل ولادتها عانت أسرتها موت المواليد من دون معرفة السبب، وقبل قدومها نذرت والدتها أن تسمي الطفل القادم باسم أحد وحوش الغابة لعلّه يتمكن من مقارعة الموت والعيش، وفعلاً بعد ولادتها سميت باسمها الحالي "ديبة" لتبدأ رحلة الكفاح من أجل الحياة».

وفي لقاء مدونة وطن "eSyria" مع العمة "ديبة النسيم" بتاريخ 4 حزيران 2016، قالت عن عملها في "صب الكنافة": «خلال مناسبة مسيحية تسمى "المرافع البيضاء" التي تمتد على مدار شهر ونصف الشهر يجب أن أصنع كل يوم نحو اثنين وستين كيلوغراماً من "الكنافة" التي اشتهرت بصناعتها، وكذلك صناعة "الملبن"؛ وهو نوع من أنواع الحلوى التي اشتهرت بها "مشتى الحلو"، وكان عملي مستمراً فيها، حيث يجب عليّ تجهيز الطلبات منها، ثم المرور على مختلف الجيران لمساعدتهم على صناعتها وإبداء الرأي في المراحل التي قطعوها خلال صناعتها، وخاصة مرحلة مدها على الأقمشة لتكون بطبقة رقيقة فيكون المنتج النهائي ذا جودة ممتازة».

السيدة إلهام فضة

وتتابع: «كنت أصغر فتاة تمارس عمل الحصاد، وكنت أنافس الحاصدين المخضرمين فيشيدون بي».

مع أنها لم تتخطَّ الصف الثاني الابتدائي، تجاوزت المرحلة الجامعية بما قدمته من ثمار اجتماعية، وهنا قالت: «تعلمت صفين ابتدائيين فقط، لكنني مارست فعل المتعلمين على أبنائي بكل جدية وصرامة، فكنت أتابعهم في الدراسة وأصوّب أخطاءهم وفق ما هو موجود في مقرراتهم، وهذا كان حافزاً لهم ليتابعوا تحصيلهم العلمي بجدّ واجتهاد؛ فحصلوا على شهادات أكاديمية باختصاصات متعددة، ومن النوادر في هذا الأمر أنني كنت أساعد أحفادي في مراحلهم الجامعية».

العمة ديبة وإلى يمينها السيدة إلهام

ولم تكتفِ بهذا القدر من القراءة، بل تخطت ذلك إلى مطالعة مختلف الكتب الدينية والفكرية والأدبية كما قالت: «أدركت أن هذا الأمر له انعكاس إيجابي على نظرة أبنائي الصغار للثقافة، فطالعت بمختلف الكتب التي استعرتها من الأصدقاء والأقارب، وحاولت مناقشتهم بما علق بذهني وتوضيحه لهم، وكل هذا كان انعكاساً لوفاة زوجي المبكرة، فكان عليّ تحمل أعباء الأسرة وأنا في سنّ صغيرة جداً، فوظفت قواي لتكون موردي الوحيد للمال، حيث كنت في أيام الربيع ومواسم الخير الطبيعية، أتوجه إلى البرية لأجني الحشائش والأعشاب، وأضعها على سطح المنزل تحت أشعة الشمس لتجف، فأخزنها وأقوم ببيعها كعلف للمواشي، وهذا أدى إلى اعتياد المربين على ما أوفره لهم فيحجزون حاجة مواشيهم مسبقاً، وكنت بما أجنيه من هذا العمل أؤمن المواد الأولية لمؤونة منزلي من الطعام».

وتتابع: «وقعت بضيق مادي كبير دفعني إلى رتي ملابس أسرتي، ومنها تعلمت الخياطة وبدأت أمتهنها كعمل إضافي يمكن أن يكون سنداً لي في حياتي، لكن من دون أدنى خبرة تعليمية من أحد، وأتقنت خياطة فساتين السيدات، وكنت أنتج فستاناً في مساء كل يوم حيث الوقت متاح لهذا العمل، وأتقاضى أتعابه بأجور بسيطة لكسب الزبائن.

وأذكر في فترة الوحدة مع "مصر" كلفت من قبل الجهات المعينة بـ"المشتى" بخياطة ثلاثة عشر فستاناً، وكل فستان يمثل بشكله وألوانه دولة عربية معينة، تمكنت من إنجازها خلال ثمانية أيام فقط، اعتمدت فيها الخيط لعمليات القياس، ووفقت بها، ونالت إعجاب الجميع».

الجدير بالذكر، أن العمة "ديبة النسيم" من مواليد "مشتى الحلو"، عام 1925.