عملت الجدة "رضا" في معمل الحرير، وكانت "ناظرة" لجودته، وعاصرت مراحل وطقوس الحياة الريفية بأجمل صورها، وهي اليوم أكبر معمرة في "مشتى الحلو".

تسعة وتسعون عاماً قضتها الجدة "رضا عكاري" -من أهالي وسكان ناحية "مشتى الحلو"- بصحة جيدة قوامها ما اختزنته في مراحل سابقة من الغذاء الريفي الطبيعي؛ وهو ما انعكس على قدرات عقلية نبشت منها صوراً وحكايات تراثية زاخرة بالعطاء، وهنا قالت لمدونة وطن "eSyria" بتاريخ 15 آذار 2016: «كانت تربية المواشي من أبقار وأغنام عملية قائمة في كل منزل تقريباً من منازل "مشتى الحلو"، وغذاؤنا الأساسي من منتجات هذه المواشي، وخاصة "اللبن والشنكليش والسمن العربي"، حيث أتقنت صناعتها وفق الطرائق التراثية كالجرّة الفخارية، وهي طريقة تعلمتها من والدتي التي توفيت وهي بعمر تجاوز المئة عام.

وبعد دراستي تمكنت من قراءة جميع القصص التاريخية التي كانت متداولة في تلك الفترة، مثل: "الزير سالم"، و"عنترة"، وغيرها، وهذا انعكس على ثقافتي، كما أنه خولني السفر إلى "لبنان" للعمل بالحرير هناك

إضافة إلى ما كنت أجنيه من نباتات برية عشبية غذائية، ومنها الهندباء والخبيزة والجرجير الذي ينمو على مجاري الأنهار والينابيع؛ وهو ما انعكس على صحة جيدة أتمتع بها حتى الآن».

المهندس سمير عوكي

كما أن الذاكرة التي تمتعت بها الجدة "رضا" كانت نيرة على الرغم من بلوغها تسع وتسعين عاماً، ومن صفحاتها سردت لنا جزءاً من عملها السابق في معمل الحرير، وهنا قالت: «عملت سنوات طويلة في معمل الحرير وكنت تقريباً من أوائل النساء العاملات فيه، وكان عملنا يبدأ منذ ساعات الصباح الأولى، بعد أن نسمع صافرات الاستيقاظ الثلاث من المعني بهذه المهمة، وفي الأغلب كنا نذهب مجموعات إلى العمل، وطعام كل منا بيديه، لأن ساعات العمل طويلة ولا يمكن المغادرة، كما أن طبيعة الدوام صعبة وصارمة، فمن كان يتأخر يعرض نفسه للعقوبة.

ومن ثم أصحبت المسؤولة عن مراقبة جودة الحرير المشغول، وكانت تسميتي "الناظرة" لجودة الحرير، وكان هناك من يتابع مستوى هذه الجودة في "لبنان"، حيث كان يصدر الحرير بشكله الأولي إليه، ووفقاً للقانون عندما لا تكون هذه الجودة جيدة أتلقى عقوبة خصم من الراتب، لكن تمرسي على العمل جعلني مختصة به، حيث كنت أحصل على المكافأة».

المهندس إلياس صباغ

طبيعة عملها وامتلاكها لدخل شهري انعكس عليها بوضوح، أوضحت ذلك بقولها: «كان من المفروض عليّ أن أبقى متيقظة، لأن لي تعاملاتي مع مسؤولي تجارة الحرير، وخاصة التجار اللبنانيين، وما خدمني في ذلك دخلي الشهري الجيد، حيث كنت أشتري مطلع كل شهر كل ما من شأنه أن يبقيني أنيقة، مع المحافظة على جزء كبير من الدخل الشهري لمعيشة عائلتي، حيث كانت الأسعار زهيدة جداً في تلك الفترة».

وعلى الرغم من الظروف الصعبة لم يبخل الأهالي على أبنائهم بالتحصيل العلمي، فالجدة "رضا" نالت نصيبها من ذلك، وهنا قالت: «عانينا الكثير في عملية التحصيل العلمي، على الرغم من قرب المدرسة وتموضعها في منتصف "المشتى" تقريباً، وكنا في الأغلب نحصل على مبادئ القراءة والكتابة، ومتى أتقنها أحدنا كان يغادر المدرسة إلى الحياة العملية، ومع هذا تابع بعضهم تحصيلهم العلمي لمراحل متقدمة كالتحصيل الأكاديمي».

الجدة رضا عكاري

وتتابع: «وبعد دراستي تمكنت من قراءة جميع القصص التاريخية التي كانت متداولة في تلك الفترة، مثل: "الزير سالم"، و"عنترة"، وغيرها، وهذا انعكس على ثقافتي، كما أنه خولني السفر إلى "لبنان" للعمل بالحرير هناك».

وعن جانب من حياتها كزوجة قالت: «طقوس الحياة كانت صعبة نوعاً ما، وخاصة على النساء ربات المنازل، حيث يجب عليها إحضار المياه من الينابيع مهما كانت بعيدة أو صعبة الوصول، كما أنني غسلت ملابس أسرتي وعائلتي على مجاري الأنهار والينابيع لسنوات عدة».

وفي لقاء مع المهندس المتقاعد "إلياس صباغ"، من أهالي "المشتى"، قال: «بحسب تصنيفات العجائز في القرية تعد الجدة "رضا" أكبر معمرة موجودة في "مشتى الحلو"، ما زالت تمتلك قدراتها الحيوية من حركة وسواها، وقدراتها البنيوية كالبصر والنطق السليم والذاكرة المتقدة، وهذا أمر متميز لأنها تمارس حياتها الاعتيادية من دون مساعدة أحد».

أما المهندس "سمير عوكي" صديق العائلة، فقال: «تميزت الجدة "رضا" بنشاطها وحيويتها ومكافحتها في الحياة، فلم تكن تكلّ أو تملّ العمل، وقد عملت في جمع الحطب والرمل وبيعه لتأمين دخل يعيل أسرتها، ومن ثم عملت بتربية الأبقار لتحسن دخلها، كما أن زوجها كان يعمل فيما نسميه "محافر"؛ وهي مقالع رملية بسيطة ويدوية، فيؤمن لها الرمل لتبيعه، وعلى هذا فقد ساهمت بتأسيس وبناء أغلب منازل "المشتى".

كما عملت في معمل الحرير، وكانت من أوائل النساء العاملات به، وأنا شخصياً أرى أن عملها وجهدها العضلي في السابق هو سبب أساسي لبقائها بصحة جيدة إلى وقتنا الحالي على الرغم من سنواتها التي قاربت المئة.

كما أن لطبيعة الغذاء في السابق دوراً فاعلاً في صحتها الجيدة حتى الآن، وأذكر أنها لم تكن تحتاج إلى شراء أي شيء، لأن منتجاتها الحقلية ضمن حديقة المنزل شاملة ويتوفر فيها كل شيء، إضافة إلى اعتمادها منتجاتها من حليب الأبقار التي ساهمت بتربيتها».

الجدير بالذكر، أن الجدة "رضا عكاري" من مواليد "مشتى الحلو" عام 1917، ولديها أربعة أبناء.