لم يكن بيع "اليانصيب" بالنسبة للجد "محمود رحال" محض مصادفة، بل كان قراراً لتغيير واقع الحال، إلا أن المصادفة المحضة والحظ الجيد كان حليفه لمرة واحدة أسس من خلاله رغد الحياة، لكنه لم ينسِه ماضيه القاسي.

بائع "اليانصيب" "محمود رحال" له قصته الخاصة كما أسماها؛ التي تحدث عنها لمدونة وطن "eSyria" بتاريخ 30 تشرين الأول 2015، فقال: «الحياة البسيطة السهلة لم تكن في يوم من الأيام في صفّي، وإنما كانت أشد وقعاً عليّ نتيجة تردي الوضع المالي، والانطلاق إلى الحياة العملية في سن مبكرة جداً نتيجة الاحتلال الفرنسي الذي هجر أهلي من منطقة "سهل عكار"، فكان مصيري الذهاب إلى لبنان وحيداً من دون أسرة؛ وهو ما دفعني للعمل في فرن خبز يعمل على الحطب بعدما كنت أعمل في بلادي بالزراعة وتربية المواشي.

ذكريات بيع "القرمش" من أجمل الذكريات، حيث كنت أبيع إصبع "القرمش" بفرنك سوري، ومجمل المبيع اليومي يصل إلى حوالي عشر ليرات، وهو ما يقدم سعادة عارمة لي ولأسرتي

وعملي في الفرن كان يعتمد على التجوال على المنازل والسؤال عمن جهز عجينه لإيصاله إلى الفرن وخبزه، ثم إيصاله إلى المنازل مرة أخرى، إضافة إلى شيّ الحلوى أو أي طعام آخر لمن يرغب، وكانوا يدفعون لقاء ذلك لصاحب الفرن نحو ثلاث ليرات شهرياً، وأحصل أنا على رغيف خبز مكرمة منهم، أو فرنك لبناني، والمميز بتلك الفترة معيشة الناس البسيطة السهلة المعتمدة على البركة والمحبة والود والألفة».

يوسف ديوب

ويتابع بائع اليانصيب "رحال" سرد محاولة تغييره لرتابة الحياة، ويقول: «في أحد الأيام قررت بيع "اليانصيب"، ولجأت إلى الوكيل عارضاً عليه رغبتي بهذا العمل على الرغم من أنني لا أملك المال، فأعطاني مئة ورقة على سبيل الأمانة، وبدأت العمل بمردودية اقتصادية جيدة، ثم أدخلت إلى هذا العمل صناعة "غزل البنات والقرمش" وبيع عرانيس الذرة، لكوني أتجول بين الأحياء والشوارع باحثاً عن زيادة في الدخل المادي، وفي سنة 1961 ربحت جائزة "يانصيب" قدرها خمسة وعشرون ألف ليرة لبنانية، فحولتها إلى الليرة السورية لتجلب أربعة وثلاثين ألف ليرة سورية، وكان هذا المبلغ جيداً جداً في تلك الفترة، فعدت إلى "طرطوس" واشتريت منزلاً واستقريت فيه، وكانت الورقة الرابحة من بين الأوراق التي بقيت معي قبل السحب مباشرة، وعلى الرغم من هذا لم أتخلَّ عن بيع "اليانصيب" برفقة ستة بائعين كانوا موجودين ضمن مدينة "طرطوس"، وحالياً لم يبقَ منهم أحد، حيث أعدّ من أقدم بائعي "اليانصيب" في المحافظة».

"يوسف ديوب" بائع "يانصيب" سابق قال: «تعد حلوى "القرمش" التي كان الجد "محمود" يصنعها يدوياً لذيذة ومفيدة ومطلوبة من قبل الجميع، وهذا ما كان يبدو على زبائنه من الطرفين أي طالبي "القرمش" وزبائن "اليانصيب"، وهو الأمر الذي ساعده في عمله وضاعف عدد زبائنه، فهو رجل طيب وبسيط ويعمل بتقوى الله، وإن استقر في مكان لا يبارحه ليبقى محافظاً على زبائنه، وهي ميزة عرفه بها زبائنه وحافظوا على علاقتهم معه، إضافة إلى أنه رجل مؤمن بقيمة عمله فقدم له جل وقته، لأن الحظ ليس له موعد».

بائع "اليانصيب" محمود رحال

ويتابع البائع "يوسف": «عملت بهذه المهنة مدة من الزمن، ومن وقتها وأنا أدرك أن الجد "محمود" يعمل بها إلى جانب "القرمش"، وهذا ما يصنفه ضمن قائمة أقدم بائعي "اليانصيب" في المحافظة الباقيين على رأس عملهم، وما أدركه عنه أيضاً قصة كفاحه التي حاول من خلالها تغيير واقع نشأته الصعبة بالمحبة والصدق والمودة للجميع، فلم أشعر يوماً بأنه منافس لي بعملي، أو حتى إنه ينزعج من وجودي بالعمل إلى جانبه بذات المكان الذي يعمل به».

يحاول الجد "رحال" تثبيت مفاهيم عمل بائع "اليانصيب" المختلفة للمفهوم الذي يدركه عامة الناس، حيث يقول: «هذه المهنة يمكن أن يعدّها بعضهم سهلة وبسيطة، وهذه الاعتقادات تختلف تماماً عن واقع الحال، وهنا حاولت تغيير تلك المفاهيم بالتودد للجميع والثبات في العمل، لأن العمل في الحقيقة صعب جداً ويحتاج إلى الوقت الكبير والصبر الطويل، إضافة إلى المحبة والصدق في التعامل والنوايا الطيبة تجاه الجميع؛ وهذا ما أكسبني زبائن دائمين يبحثون عني دوماً، ففي البداية كنت متجولاً في مختلف الأحياء والشوارع ومنها منطقة "الكراجات القديمة"، أما الآن فأنا مستقر في حي "المنشية" بجانب الحديقة، وهذا منذ ست سنوات، لأن من له حظ الربح يدركه أينما كان».

بائع "اليانصيب" محمود رحال مع مراسل مدونة وطن eSyria

وعن الذكريات الجميلة قال: «ذكريات بيع "القرمش" من أجمل الذكريات، حيث كنت أبيع إصبع "القرمش" بفرنك سوري، ومجمل المبيع اليومي يصل إلى حوالي عشر ليرات، وهو ما يقدم سعادة عارمة لي ولأسرتي».

وفي لقاء مع "عزيز محمد" أحد زبائن الجد "محمود" قال: «الجد "محمود" كما أعرفه رجل طموح ويرى القادم بوجه عام أفضل، وهذا يعني أن عمله ببيع "اليانصيب" منحه النظرة التفاؤلية الخالية من النظرة التشاؤمية، التي تبث في نفسي أمل الربح دوماً، علماً أنني لم أربح يوماً أكثر من ثمن الورقة، ومع هذا أشتري "اليانصيب" باستمرار، كما أنني اعتدت في فترة بيعه "القرمش" شراءه منه فهو أفضل من صنعه، كما أنني حين أرغب بشراء ورقة "يانصيب" أعرف مكانه فأقصده، وفي بعض الأحيان أقف بعد شراء "اليانصيب" للحديث معه لأنني أدرك في بعض أحاديثه حكمة الزمن لكونه عاشر الكثيرين من الناس».

الجدير بالذكر، أن بائع "اليانصيب" "محمود رحال" من مواليد "سهل عكار" في محافظة "طرطوس" عام 1928، ولديه ثمانية أبناء.