على وقع رنة الخرزات بمؤخرة المنجل، وهزة الشروال يميناً ويساراً خلال العمل، حصد "الطارود" "علي عباس" ما يقارب بذار ثلاث تنكات قمح، فكان "حاصود" ريف منطقة "القدموس" الأول حتى "سهول الغاب".

إن تسمية "الطارود" في الطقوس الشعبية الزراعية دلالة على الرجل الممتهن للحصاد والمتفوق به، بل والمتميز على مستوى المنطقة التي يسكن فيها ومحيطها، والجد التسعيني "علي عباس" كان "الطارود" الذي لا يتفوق عليه أحد في قرية "الدي" التابعة لريف "القدموس"، وهنا قال الحاصد "مرشد غانم" من أهالي وسكان القرية لمدونة وطن "eSyria" بتاريخ 7 أيار 2015: «أدرك جيداً المرحلة التي عاشها الطارود "علي عباس" بحكم العلاقة الأسرية فيما بيننا، وعملي في حصاد القمح لسنوات متعددة، وقد عُرف ضمن مختلف مراحل حياته بلباسه الشعبي المميز خلال العمل، كالشروال والقميص ومنديل الرأس الأحمر و"البريم"، وكنت أراه خلال مراحل الحصاد يتمايل بشرواله يميناً ويساراً، بمشهد بصري مميز، وكأنه يداعب سنابل القمح، مصدراً حفيفاً ألِفته الأرض، كنغمة يتحرك على وقعها، ورافق هذه الحركات صوت اهتزاز الخرزات في نهاية منجل الحصاد الكبير المميز عن بقية مناجل من يتبعه من الحاصدين، الذين يطلق عليهم اسم "الشدة"، وهذا في الأوقات العادية بعيداً عن المنافسة والتحدي أو ما كان يسمى بالعرف الشعبية "المراغمة" مع شدة أخرى لـ"طارود" آخر».

الطارود "علي" يعمل في "أمّان" واحد، أي ضمن خطين مستقيمين متوازيين، وخلالهما يجنح نحو "الرعدان" ليسهل عمله، وكذلك "الرعدان" على الذي يليه.. وهكذا؛ وهو ما يعني أنه مرتاح في العمل والمنافسة، وبذلك يهيئ لخاتمة العمل السارة له

الجد "محمود حسن محمد" الثمانيني في العمر، وأحد أعضاء شدة الطارود "علي" في وقت من الأوقات، قال: «لقد تميز الطارود "علي" بقدرته الكبيرة على التأقلم مع صعوبة الحصاد، ومحبته للعمل والمنافسة القائمة فيه، وقد تميز في المساحات الشاسعة من حقول القمح، حيث يجد فيها المتعة والسهولة في العمل، ولكوني أحد أعضاء "شدته"، كنت مقرباً منه كثيراً، وأدرك تفاصيل كثيرة في عمله وبنيته الجسدية، فهو شخص لا يمل العمل، وكان يعطي مواعيد حصاد لعدة أشهر مسبقاً، حين كان يقصده مزارعو القمح في "سهول الغاب" والمنطقة المحيطة بالقرية، فينتقي وفق ظروف العمل المطلوب وضغوطاته عدد أعضاء "شدته"، فهي بالعموم لم تكن تقل عن ثمانية حاصدين، ومنهم "الغمارة" و"الرعدان"، حيث يكونا خلفه مباشرة ويده اليمنى في العمل.

الجد محمود محمد

أما بقية أفراد "الشدة" فلم تكن لهم تسميات باستثناء "الحاصود" الأخير، الذي يطلق عليه اسم "الجحيش" لضعف قدراته في الحصاد مقارنة مع بقية أعضاء "الشدة"».

ويتابع: «كانت القدرة الفعلية للطارود "علي" تظهر خلال المنافسة والتحدي "المراغمة" مع "شدة" أخرى، وبناءً عليه كان يحصل على أجر إضافي من المالك يسمى "الطورديّ"، وكانت تقدر بحوالي ربع ليرة سورية، إضافة إلى تخييره بنوعية الطعام الذي يرغب بتناوله.

الجد شاهر زيدو

وأهم ما تميز به على الصعيد الجسدي البدني أنه سريع بالعمل، ذو ذراعين متينين؛ لا يهابان سنابل القمح الحادة خلال مرحلة الاصفرار والحصاد، إضافة إلى أنه تمتع بظهر قوي طري مطاوع لحركاته، وهذا الأمر الأهم، وجميع هذه الصفات مجتمعة، قلما نجدها في بقية الحاصدين».

السيد "شاهر زيد" "طارود" من قرية "شمسين" بريف "القدموس"، قال: «لقد سمعت كثيراً عن قدرة الطارود "علي" بالعمل ومهارته فيه، وكان إن فرضت عليه المراغمة ترك المنجل أرضاً وبدأ الحصاد بيديه العاريتين، إلا أن مجموعة السنابل المحصودة التي تسمى "شميّل" تكون مميزة بيديه، فنرى نهاياتها وكأنها مقصوصة يدوياً بواسطة المقص وليس المنجل، وهذا ما أدركته عنه في العمل، إضافة إلى الطريقة الفنية الأنيقة التي يجمع بها "الشميّل"، والتي تسهل على "الغمارة" خلفه عملها».

خلال الحصاد

ويتابع: «الطارود "علي" يعمل في "أمّان" واحد، أي ضمن خطين مستقيمين متوازيين، وخلالهما يجنح نحو "الرعدان" ليسهل عمله، وكذلك "الرعدان" على الذي يليه.. وهكذا؛ وهو ما يعني أنه مرتاح في العمل والمنافسة، وبذلك يهيئ لخاتمة العمل السارة له».

وفي لقاء مع الطارود "علي عباس" تحدث بداية عن صعوبة العمل فقال: «يبدأ العمل منذ الصباح الباكر جداً، بعد تجهيز العدة والمناجل و"المصابعين"؛ وهي قطع خشبية مفرغة توضع فيها الأصابع لحمايتها وتكبير مساحة الكف بها، أي زيادة كمية سنابل القمح المفترض مسكها.

إضافة إلى ما يعرف بزوادة الطعام والمؤلفة من البرغل والبصل والخبز وبعض مشتقات الحليب، تحسباً لعدم إحضار المالك لوجبات الطعام، وهذا نادراً ما كان يحدث معي، لأنني معروف على مستوى المنطقة بأسرها وحتى "سهول الغاب"، وهذا استدعى التواصل معي مباشرة قبل موسم الحصاد للحصول على موعد حصاد، حيث كنت أحصل على أتعابي قبل البدء بالعمل، وهذا أمر من النادر أن يحصل مع بقية الحصّاد».

ويتابع عن قدرته في العمل، فيقول: «عندما يكون الزرع "دلليل" أي سنابل القمح متوزعة وغير متقاربة بعضها من بعض، تحتاج إلى وقت أكبر لحصادها، فهي لا تساعد الطارود على إنتاج حصيلة جيدة من الحصاد اليومي، فلا يمكن أن يحصد أكثر من بذار تنكة ونصف التنكة فقط، أي بالوزن تكونا نحو أربعة وعشرين كيلوغراماً، أما إن كانت سنابل القمح قريبة بعضها من بعض، وهنا يقال لها "عَبيطة" فيمكن أن أحصد بذار نحو ثلاث تنكات، ويلعب الدور الأساسي هنا طبيعة المنطقة الجغرافية وصعوبتها وسهولتها».

ومن القصص الجميلة التي حصلت معه خلال مراحل عمله، "المراغمة"، وقال عنها: «في إحدى مرات المنافسة مع طارود معروف بقدرته وشَدَته المستمرة بالعمل معه، بدأنا الحصاد وكلٌ معه "شدته" المؤلفة من ثمانية أفراد، وهنا اقترحت على الضعفاء في شدتي أن ينطلقوا أولاً وبينهم "الجحيشي"، وأبقى أنا في المؤخرة حتى أدرك مجريات الأمور وما ستؤول إليها.

وفعلاً انطلقت "الشدة" المنافسة و"طارودها" بسرعة، وما إن وصلنا نحن إلى منتصف "الأمّان"؛ أي منتصف السهم الحقلي حتى أنهوا هم أول "أمّان" لهم، فطلبت من أعضاء شدتي أن يسرعوا قليلاً، فلم يتمكنوا نتيجة صعوبة الموقع الجغرافي، وبعد الانتقال إلى السهم التالي، كانت الشدة الثانية في منتصفه، وهنا بدأت الحصاد الحقيقي بيدي من دون منجل، وتسلمت المقدمة حتى وصلت إلى جانبهم، فقلت للطارود الآن بدأت "المراغمة"؛ أي التحدي وأنت بمنجلك وأنا بيدي، وانطلقنا من جديد وانبعث الغبار من التربة وملأ المكان، فسبقتهم بمسافة جيدة، وبقي أعضاء شدتي بمستواهم كنوع من التحدي أيضاً.

لكن المفارقة والتحدي الأكبر كان حين تجهيز الإفطار ومناداتي لتناوله مع بقية الحاصدين، حيث رجعت بـ"أمّان" آخر، فقُهر "الطارود" الخصم وبدأ الغليان، وفي تلك المرحلة الزمنية كان المعروف أن الخسارة ليست بالأمر البسيط على الطارود وقد تؤخر صحته، ولذلك بعد الانتهاء من الإفطار قلت لـ"الطارود": إننا سنبقى جنباً إلى جنب وسنمد يد العون خلال العمل، واتفقنا على هذا المبدأ حتى أنهينا العمل».