من إنسان مهتم بعمله اليومي ودورة حياته التقليدية، إلى إنسان يقضي أياماً باحثاً عمن يحتاجون إلى المساعدة، ليس في محيطه فقط بل على مستوى مدينة ومحافظة كاملة، كيف حدث هذا معه، ولماذا؟

أطلق عليه الطفل "عبد الكريم عمر" ذو الثلاث سنوات من مخيم "الكرنك" في "طرطوس" لقب "أمو إيماد الأوزي"، والترجمة هي "عمو محمد الطرطوسي"، هذا الطفل وكثيرون مثله ينظرون فعلاً بعين الحب إلى جهد كبير قام به وتجربة تستحق التقدير في ظل الظروف السورية القاسية على الجميع.

من دون إشهار وإعلان يمكنك دعم 100 شخص، ومع إشهار وإعلان يمكنك دعم 100000 شخص، هنا الفكرة الأساسية من الإعلان والتواصل والتحركات، وبفضلها تمكنا من التواصل مع كثيرين من الراغبين بالمساعدة ولكنهم لا يعرفون كيف يفعلون ذلك

هذا الشاب هو "محمد الأحمد"، سوريٌّ، حاز شهادة الدراسة الإعدادية ولم يكمل تعليمه لأسباب كثيرة، يعمل في تقنيات الحاسوب والكاميرات منذ سنوات، لديه محل صغير في مدينة "طرطوس" لبيع وشراء قطع الحاسوب، يقول في حديث مع مدونة وطن "eSyria" بتاريخ 10 آذار 2015، متحدثاً عن رحلته في العمل الإغاثي والتطوعي: «ككل السوريين كانت لي أحلامي ومنها الزواج والاستقرار في البلد، المرة الأولى التي التقيت فيها مهجرين كانت في مشوار في الشتاء الماضي على الكورنيش في "طرطوس" يعيشون في نفق مظلم، يومها أصابتني الدهشة فعلاً فبقيت أحدق بهم وقتاً، إلا أن هذه الدهشة انقلبت إلى رغبة جارفة بمساعدتهم، ذهبت إلى بيتي وأحضرت ما لدي من ثياب وأغطية وبطانيات وذهبت بها إليهم محاولاً قدر الإمكان أن أغطي حاجاتهم، حتى انتبه الجيران إلى أنني كل يوم أذهب حاملاً كيساً على ظهري فسألوني لمن؟ فأخبرتهم وكانت المرة الأولى التي أعلن فيها هذا».

في منطقة القدموس

طلب "الدينامو" (لقبه الآن عند المهجرين) عبر أصدقائه مساعدة الناس الساكنين في النفق، وبادر هو إلى دعوة عائلة مكونة من أم وأب وأربعة أطفال إلى بيته لتغسل ثيابها وتستحم، أعطاهم المفتاح وغادر البيت، وبعد انتهائهم عاد ليشاهد الأطفال "مهفهفين"، فقرر أن يسكنهم معه في بيته، ويتقاسم معهم أمور الحياة التي تقسو يوماً إثر آخر، كان من الصعب "عليّ تغطية مليون نازح إلا أنني قادر على تغطية أمور عائلة واحدة، لو كل سوري احتضن عائلة كنا حلينا جزء كبير من المشكلة"؛ يقول "محمد".

بعد استشهاد صديقه العامل معه في المحل قام ببيع محله غير آسف، إضافة إلى انشغاله المستمر بشؤون الإغاثة، وأبقى على عمله الأساسي في الصيانة و"الموبايلات" والكاميرات، واشترى عربتي فول لـ"أبو حسن" -رب العائلة الساكن لديه- مع كامل تجهيزاتهما، وأصبح الأب منتجاً واستطاع أن يقف على رجليه ويستأجر منزلاً وينتقل من عند "محمد"، وهكذا كان.

د.ميشيل عرنوق

رفض "محمد" الانطواء تحت لواء أية جمعية أو منظمة، والسبب كما يقول هو "مزاجيتي واعتمادي على "الروح" في عملي، رغم اعتمادي على العقل والمنهجية في العمل فوق ذلك"، وبدأ العمل يتوسع بعد أن كثر الأصدقاء الراغبين بالعمل، و"بدأنا نتعرف إلى أشخاص يرغبون بالعمل والمساعدة، ننسق بعضنا مع بعض، وكل ذلك في صمت"، إلا أن الوضع لم يعد يحتمل مزيداً من الصمت فالناس كثيرون وهم بحاجة إلى مساعدة عاجلة وماسة.

وعبر مواقع التواصل الاجتماعي، أطلق مع الأصدقاء حملة تبرعات عينية، وبفضل تبرعاتهم تمت تلبية حاجات مناطق كاملة في "طرطوس" منها مخيم "الكرنك"، و"حارة الزيتون"، ومخيم "الطلائع"، وغيرها. اتسع الفريق ليجمع كثيرين قدموا ما لديهم من وقت وجهد ومال، و"إذا كان الهدف مساعدة أهلنا، فلماذا نخجل من الإعلان عن ذلك؟" يتابع "محمد" شرح فكرته: «من دون إشهار وإعلان يمكنك دعم 100 شخص، ومع إشهار وإعلان يمكنك دعم 100000 شخص، هنا الفكرة الأساسية من الإعلان والتواصل والتحركات، وبفضلها تمكنا من التواصل مع كثيرين من الراغبين بالمساعدة ولكنهم لا يعرفون كيف يفعلون ذلك».

في حارة الزيتون بطرطوس

مشكلة العمل الإغاثي بالدرجة الأولى ألا تتورط عاطفياً مع من تعمل لأجلهم، ولكن كيف ذلك وأنت تتعامل مع "سوريين مثلك"؟ يقول "محمد" إن تراكم الصور الموجعة كفيل أحياناً بأن "يهد الحيل"، إلا أن "كمية الفرح التي تراها في عيون الناس والأطفال خاصة تجعلك أكثر إصراراً على متابعة العمل ووصل الليل بالنهار، كيف يمكنك أن تكون حيادياً تجاه إنسان سوري مثلك؟ لا يمكنني ببساطة».

يتفق مع هذه الرؤية الصديق الأقرب الدكتور "ميشيل عرنوق" الذي ورطه إيجابياً بالإعلان عن عمله والمشاركة معه في هذه الرحلة: «كنت أعتقد أنني قطفت من السنوات التي مضت كمشة إنسانية، ولكن إصراره أن يقوم بيديه بإلباس الأطفال وطريقته في التواصل معهم، جعلتني أقف مذهولاً من هذه الروح السامية وما عملت وما تعمل من أجل ابتسامات هؤلاء الأطفال الذين باتوا يحبونه إلى حد أنهم يبحثون عنه في كل مكان».

هناك الكثيرون من الأصدقاء الذين لحقوا بـ"محمد" وفريق العمل، فقد خلق هذا النمط من العمل الإغاثي حراكاً مميزاً حقق كثيراً من التواصل الإنساني الواقعي، يقول المحامي "محمد نور الدين" صديقه: «ربما دفعتنا الأحداث المؤلمة في بلادنا إلى الشك في فكرتنا عن الوطن حين نرى تقاتل أبنائه والعنف الذي يمارسونه تجاه بعضهم بعضاً، وربما نشك أيضاً في معنى الإنسانية حين نرى كل هذه الوحشية والهمجية في الحرب، لكن هل يمكن لشخص واحد أن يبدد كل هذه الشكوك ويعيد إلينا الثقة بالوطن والإنسان؟ نعم، هو الجواب المستمد بثقة من معرفتي بالصديق "محمد"، ومن تجربته في العمل الإغاثي والتطوعي، ليس في الأمر مبالغة؛ فأن يبيع أحدهم المحل الذي لا يملك سواه في سبيل مساعدة مهجري الحرب الوافدين إلى مدينته، وأن يستقبل بعضهم في بيته، وأن يؤمن لهم العمل من جيبه الخاص والمتواضع كل هذا بهدوء صمت، وأن يقوم بكل هذا شخص واحد لا يرجو من ذلك جزاءً ولا شكوراً يعني أن علينا أن نعيد النظر بشكوكنا تلك، الرجل الذي ليس لديه شهادات يثبت أن الروح التي يملكها والقيم التي ينتمي إليها ليست في الكتب والأوراق والشهادات، بل في العمل والممارسة».

يتابع "محمد" مع فريق عمل من المتطوعين رحلة العمل الإغاثي بكثير من الحب الدافق، ويطمحون أن يأتي اليوم الذي يعودون فيه إلى حياتهم الطبيعية ككل السوريين الآخرين.